في مصادفة غريبة التقت أحد الفلكيين لم تكن يومها قد بلغت من الشهرة مبلغها، وراح الفلكي يقرأ لها الطالع، فقال: “ستصيرين من المشاهير، وستموتين في الماء كما ولدت بالماء”.
فقد ولدت آمال فهد الأطرش على سطح باخرة في عرض البحر عام ،1917 كما لقيت حتفها عام 1944 في ترعة الساحل بالقرب من مدينة طلخا بمحافظة الدقهلية. وما بين الولادة والوفاة عاشت أسمهان حياة قصيرة لكنها مليئة بالأحداث.
يعود نسبها إلى آل الأطرش بجبل الدروز بسوريا، وكان فيهم رجال لعبوا دورا بارزا في الحياة السياسية في سوريا والمنطقة في ذلك الوقت وقبله، أبرزهم عمها سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي، ووالدها فهد الأطرش درزي من السويداء بسوريا، وعمل مديرا لناحية في قضاء ديمرجي في تركيا، ووالدتها السيدة عالية المنذر، درزية لبنانية من بلدة برمانا، وشقيقاها فؤاد الذي كانت على خلاف دائم معه، وفريد الأطرش المطرب والموسيقار المعروف والذي كانت على وفاق تام معه والذي أخذ بيدها في عالم الفن وجعلها نجمة غناء لامعة إلى جانب شهيرات ذلك الوقت، كما كان لها شقيق ثالث يدعى أنور وشقيقة تدعى وداد توفيا صغيرين.
عادت الأسرة من تركيا إلى بيروت حيث بعض الأقرباء في حي السراسقة، ثم انتقلت إلى سوريا، جبل الدروز بلد آل (الأطرش) واستقرت الأسرة وعاشت حياة هانئة سعيدة إلى أن توفي الوالد فهد الأطرش سنة ،1924 فاضطرت والدتهم عالية إلى مغادرة عرينها في سوريا على إثر نشوب الثورة الدرزية وانطلاق الثورة السورية الكبرى والتوجه بأولادها الخمسة من سوريا إلى مصر.
في القاهرة أقامت العائلة في حي الفجالة وهي تعاني من البؤس والفاقة، الأمر الذي دفع بالأم إلى العمل في الأديرة والغناء في حفلات الأفراح الخاصة لإعالة وتعليم أولادها الخمسة الذين سرعان ما نقص عددهم بوفاة الصغيرين أنور ووداد.
ظهرت مواهب آمال الغنائية والفنية باكرا، فكانت تغني في البيت والمدرسة مقلدة أم كلثوم ومرددة أغاني عبدالوهاب وشقيقها فريد، وفي أحد الأيام استقبل فريد في المنزل (وهو المطرب الناشئ الواعد) أحد كبار الموسيقيين في مصر الملحّن داود حسني (1871-1937) فسمع داود صوت آمال تغني في غرفتها، فطلب من فريد إحضارها وسألها أن تغني من جديد، غنت أمامه فأعجب داود بصوتها وطرب، ولما انتهت قال لها: كنت أتعهد تدريب فتاة تشبهك جمالا وصوتا، توفيت قبل أن تشتهر، لذلك أحب أن أدعوك باسمها هو “أسمهان”، وهكذا أصبح اسم آمال الفني “أسمهان”.
في شارع عماد الدين كانت لها تجربة إلى جانب والدتها في حفلات الأفراح والإذاعة المحلية، وراح نجمها يسطع في سماء الأغنية العربية، حتى شاءت الأقدار أن يسمع صوتها الموسيقار محمد عبدالوهاب وهي في السادسة عشرة فقال عنها: إن أسمهان فتاة صغيرة لكن صوتها صوت امرأة ناضجة.
ولم تكن قد بلغت سن السابعة عشرة، عام 1933 حين تزوجت أسمهان من الأمير حسن الأطرش ابن عمها، وانتقلت معه إلى جبل الدروز في سوريا لتصبح أميرة للجبل مدة ست سنوات رزقت خلالها بابنة وحيدة هي كاميليا، لكن حياتها في الجبل انتهت على خلاف مع زوجها، فعادت من سوريا، وقد استبد بها الحنين إلى عالم الفن، لتمارس الغناء مستعيدة عرشها فيه، ولتدخل ميدان التمثيل السينمائي.
فتحت الشهرة التي نالتها أسمهان كمطربة جميلة الصوت والصورة أمامها باب الدخول إلى عالم السينما فقدمت عام 1941 أول أفلامها “انتصار الشباب” إلى جانب شقيقها فريد، فمثلت إلى جواره وشاركته أغاني الفيلم، وخلال التصوير تعرفت إلى المخرج أحمد بدرخان، ثم تزوجته ولكن زواجهما انهار سريعا وانتهى بالطلاق دون أن تتمكن من نيل الجنسية المصرية التي فقدتها حين تزوجت الأمير حسن الأطرش.
وفي 1944 مثلت فيلمها الثاني والأخير “غرام وانتقام” إلى جانب يوسف وهبي، وأنور وجدي، ومحمود المليجي، وبشارة واكيم، وسجلت فيه مجموعة من أجمل أغانيها، وشهدت نهاية هذا الفيلم نهاية أسمهان.
سبق لأسمهان أن شاركت بصوتها في بعض الأفلام كفيلم “يوم سعيد”، إذ شاركت محمد عبدالوهاب الغناء في أوبريت “قيس وليلى”، كما سجلت أغنية “محلاها عيشة الفلاح” في الفيلم نفسه، وهي من ألحان عبدالوهاب الذي سجلها بصوته فيما بعد، كذلك سجلت أغنية “ليت للبراق عينا” في فيلم “ليلى بنت الصحراء”، ورغم أن أسمهان هي أكثر مطربة تعلّمت من أساليب محمد عبدالوهاب في تجديد فنون الغناء العربي وأصوله، إلا أنها لم تغن من ألحانه سوى أغنيتين في فيلم لم تظهر فيه، وهو “يوم سعيد”. والأغنيتان هُما: “محلاها عيشة الفلاح”، و”أوبريت قيس وليلى”، شعر أحمد شوقي ويعدّها النقاد الجدّيون العرب ذروة الفن الموسيقي والغنائي العربي بلا منازع.
أثيرت الكثير من القصص والأقاويل حول أسمهان وتعاونها مع الاستخبارات البريطانية، وتقول إحداها أنه في مايو/ أيار 1941 تم أول لقاء بين أسمهان وأحد السياسيين البريطانيين العاملين في منطقة الشرق الأوسط جرى خلاله الاتفاق على أن تساعد أسمهان بريطانيا والحلفاء في تحرير سوريا وفلسطين ولبنان من قوات فيشي الفرنسية وقوات “ألمانيا” ألمانيا “النازية” النازية وذلك عن طريق إقناع زعماء جبل الدروز بعدم التعرض لزحف الجيوش البريطانية والفرنسية.
قامت أسمهان بمهمتها بعد أن أعادها البريطانيون إلى زوجها الأسبق الأمير حسن الأطرش، فرجعت أميرة الجبل من جديد، وهي تتمتع بمال وفير أغدقه عليها الإنجليز، بهذا المال استطاعت أسمهان أن تحيا مرة أخرى حياة الترف والبذخ وتثبت مكانتها كسيدة لها شأنها في المجتمع ولم تقصر في الوقت نفسه في مد يد المساعدة لطالبيها وحيث تدعو الحاجة.
وفي عددها الصادر صباح الاثنين 29 سبتمبر/ أيلول ،1941 كتبت جريدة الحديث البيروتية خبرا يقول: (الأميرة آمال الأطرش استعانت بالله وقررت تخصيص يوم الاثنين من كل أسبوع لتوزيع الطحين على الفقراء مجانا وفي منزلها الكائن في عمارة مجدلاني في حارة سرسق).
إلا أن وضع أسمهان لم يستقر، فساءت الحال مع زوجها الأمير حسن في الجبل بسوريا من جديد، كما أن الإنجليز تخلوا عنها وقطعوا نبع المال لتأكدهم من أنها بدأت تعمل لمصلحة فرنسا، في هذا الوضع الصعب حاولت أسمهان استعادة الجنسية المصرية والعودة إلى القاهرة، لاسيما وأنها بدأت تشعر بأنها على وشك الإفلاس وهي مقيمة في القدس. وكان أن فتح باب الأمل بوصول الممثل أحمد سالم الذي تزوجته شرعيا ومعه سافرت إلى مصر.
عادت أسمهان تعمل في الغناء والسينما في مصر رغم أن زواجها من أحمد سالم لم يكن سعيدا، حتى إن الزوج اضطر ذات يوم لإطلاق النار بسبب عصيان الزوجة، فأصيب برئته اليسرى كما أصيب أحد الضباط المصريين في صدره، وكان الضابط قد حضر لتسوية الخلاف بين الزوجين، كما ذكرت العديد من المصادر آنذاك.
وفي الوقت الذي كانت أسمهان تعمل فيه بفيلم (غرام وانتقام) استأذنت من منتج الفيلم الممثل يوسف وهبي بالسفر إلى رأس البر لتمضية فترة من الراحة هناك فوافق. ذهبت أسمهان إلى رأس البر صباح الجمعة 14 يوليو/ تموز 1944 ترافقها صديقة لها تدعى ماري قلادة، وفي الطريق فقد السائق السيطرة على السيارة فانحرفت وسقطت في الترعة (ترعة الساحل الموجودة حاليا في مدينه طلخا)، حيث لاقت أسمهان وصديقتها حتفهما أما السائق فلم يصب بأذى وبعد الحادثة اختفى، وبعد اختفائه ظل السؤال عمن وراء موت أسمهان دون جواب كما ظلت أصابع الاتهام موجهة نحو الاستخبارات البريطانية والملك فاروق الذي لم تستجب أسمهان لرغباته، وزوجها الثالث أحمد سالم وأم كلثوم التي ظلمها الاتهام، وإن كان الكثيرون لا يعرفون أن أم كلثوم كانت تحب أسمهان وتقربها إليها وتشجعها على زيارتها، وكانت تطلب منها أن تغني لها فتجلس أسمهان تأدبا تحت قدمي أم كلثوم وتشدو لها وتطربها، وتراقب بفرح إعجاب أم كلثوم وهي تغبط نفسها على أن أم كلثوم تسمعها وتعجب بها، بل هي التي تطالبها بالغناء.
ومن غريب المصادفات أن أسمهان قبل أربع سنوات من وفاتها، أي في أوائل يوليو/ تموز 1940 كانت تمر في المكان عينه فشعرت بالرعب لدى سماعها صوت آلة الضخّ البخارية العاملة في الترعة، وقالت قصيدة أبي العلاء المعري (غير مُجدٍ) التي لحنّها لها الشيخ زكريا أحمد، وكانت تتمرّن على أدائها حينذاك استعدادا لتسجيلها في اليوم التالي للإذاعة، قالت أسمهان للصحافي محمد التابعي رئيس تحرير مجلة (آخر ساعة) والذي كان يرافقها وقتذاك: كلّما سمعت مثل هذه الدقات تخيلت أنها دفوف جنازة، ولم تكن تدري أنه في هذا المكان سيكتب القدر نهايتها.