لك التّفويض كاملا يا ست الكل تغيّري وتنقصي و تزيدي كما ترين
أشعار جميلة جدّا منّك ست الكل, ألف شكر !
و اسمحيلي أن أسترسل أكثر و أعرض جوانب من حياة الأبنودي ذلك الرّجل الذي رزينا بفقده و قد كان عمادا من من أعمدة الزّمن الجميل !
محطات في حياة "الأبنودي"
لم يكن خروجه إلى الدنيا سهلًا، بل جاء في أيام "شؤم"، تهدد المرأة النفساء بقبض روح طفلها الرضيع.
حاولت أمه أن تتغلب على عرف الطبيعة، فتضرعت إلى الله بالدعاء مكشوفة الرأس، وسألت أهل الذكر، فدلّوها إلى البخور وأطنان أخرى من الطقوس، مارستها جميعًا بجنون حتى يقضي الله بأن يعيش وليدها.
استجاب رب العباد لمناجاتها، فعاش الولد، وطالت أيامه، ليتم اليوم عامه الـ 78، استطاع فيهم أن يحفر اسمه في التاريخ، كواحد من أهم شعراء العامية، وقطب في عائلة الحكائين العرب.
يتعرض عبد الرحمن الأبنودي، أو "الخال" كما يحب جمهوره أن يناديه، لمرض في الرئة، ويقول إنه "سيقطع طريقه إلى دولة الأموات بفضل هذا المرض"، ويقول أيضًا إن "الصعيدي يموت دون أن يمرض"، والمرض في اعتباره "عيب".
عرّف الحياة في قاموسه كـ"بروفة للآخرة"، ولم يكن يخشى لقاء عزرائيل فيقول: لو جالي هفتحله وانط في حضنه.
ميلاد رغم الطبيعة
ولد عبد الرحمن الأبنودي في 11 أبريل 1938، في قرية أبنود بمحافظة قنا، وجاءت أجواء ميلاده فانتازيّة، فجاء في أيام "الحسومات" التسعة الجالبة للشؤم في معتقدات أهل الصعيد، والمنذرة بقبض أرواح الأطفال، فكانت أمه تتطهر كل ليلة وتصعد إلى سطح البيت لاستقبال الهلال إلى الفجر، متضرعة إلى الله أن يحفظ ابنها.
وفى هذه اللحظات، حاول الشيخ محمود التخفيف عن زوجته، وقال لها: دعيه يموت في هدوء، لا تتعلقي به اعتبرى أنك لم تنجبيه شدّى حيلك وهاتى غيره.
ورأت أمه في المنام، خلال فترة الوحم، حمارة وقد ولدت جحشًا رفيعًا عليلًا، ورأت أصحابه يربطون ركبتيه بحبال كى تتماسكا، لذلك حين أنجبت ابنها، ووجدته غير قادر على استعمال ركبتيه كأنداده جميعًا، استوحت فكرة حبال الجحش، وطبقتها على وليدها.
أسرته
عمل أبوه، محمود أحمد عبد الوهاب، مأذونًا شرعيًا للقرية، وكانت له معرفة زاخرة بالنحو واللغة، فنظم ألفية في النحو، وبردة على نسق "بردة البوصيري"، وكان من الذين يقرضون شعر الفصحى، ولديه مكتبة عربية عامرة.
أما أمه، فاطمة قنديل، التي يحلو لـ"الأبنودي" أن يسميها "قنديلة"، فكانت بحسب وصفه، "مزيجًا ما بين الفرعونية القبطية والإسلامية، بالرغم من أميتها وإيمانها بالخوارق من أمور قداسة النهر والخصب وطرد الروح برذاذ الماء الذي ترشه على عتبات البيت"، وكانت في نظره "مثالًا للمرأة المصرية عمومًا، والصعيدية بشكل خاص"، وكان مصدرًا كبيرًا لإلهام الأبنودي في مختلف أشعاره.
طفولته
في بلاد لا تعرف الأحذية، رعى الأبنودي الغنم طفلًا، فكان يفيق من نومه قبل إفاقتهم، حتى إذا فرغوا من نومهم أحالوا سماء القرية ترابًا وعفارًا، استعدادًا للاصطفاف في طابور منتظم، يسوقه الطفل حافي القدمين في لهيب الشمس إلى "غيطان" القرية.
ويقول الأبنودي، في إطار حلقات من سيرته الذاتية: كانت السيدة تخوض في لهاليب جهنم وحذاءها مصان فوق رأسها، وكأن الحذاء حرام أو عيب، وكأن الواحدة منهن تقول: يقولوا عليّا لابسة جزمة؟! ليه رايحة أتجوّز ولّا رايحة عُرس؟.
ويقول الأبنودي: الرعي مهنة أساسها الحرية، حرية البدن والساق بالتحديد، للكر والفر والمطاردة والمحاصرة والمسايسة، تردّ من هنا وتصدّ من هناك، تزعق وتعوى، وتضرب، وتردع حتى يسمعك جيدًا صاحب الحقل الذي اعتدت عليه بهائمك فيغفر لك خسارته وإلا خربت الدنيا، ومرة أخرى يشير إلى أن "الحذاء هنا شيء معطّل، شيء في مصلحة الماعز وضد صاحب الحقل وضدك، شيء يهيئ للعنزة الطائشة أن تطيش، والنعجة الهاربة أن تتمكن من تنفيذ مخططاتها اللئيمة. لذلك كان الجميع حفاة، كلهم يرتدون قميصًا واحدًا خامًا رخيصًا يستر نصف البدن، أما فكرة الملابس الداخلية فلا تنشأ إلا قبل ليلة الزفاف بوقت قصير.
وفي تلك الحياة، كان على رعاة الغنم، مثل الأبنودي، أن يدبروا طعامهم بأنفسهم، فكان يخرج من بيته بسنارة لاصطياد السمك من النهر.
ألاعيب الخال
لم يملك في أيام صباه غير جلباب واحد من أيام "الدمُّور"، استخدمه بصورة مختلفة فيقول: كنت أعتقد أن سيّالتى قد تتسع لرمانة أو رمانتين، فخططت لأول سرقة في حياتي!، كان في ظهر بيتنا جنينة واسعة معروفة باسم على غزالي، وكانت بالغة الاتساع مزروعة فقط بالرمان، وتصورت أنه لن يفطن أحد لهذه الاقتباس البسيطة التي لا أريد منها سوى رمانة أو اثنتين، كما يمكنني إخفاء القشر بالدفن في تراب الفرن أو في قلب شونة التبن.
وحين عقدت النية على الاقتباس، انزلقت من على الجدار العالي إلى أرض الجنينة، وحين لامست القدمان الأرض، كانت الركبة قد تسلخت، وأدْمت نفسها، لكنى لم أكن أحس شيئًا، ووجدت نفسي وحيدًا بين الأشجار، فكومت كومة كبيرة، وربطت وسطي بحبل و"عبعبت" عبّى حتى امتلأ.
فجأة وجدتُ على رأسي ابن صاحب الجنينة، وأمسك ني بسهولة، فصحت: يا امّه.
سمعتْ أمي، وخلصتني منه، وخرجت معها إلى بيتنا من باب الجنينة يملؤني الخجل ويجلّلنى العار، وجاء والده بالرمان بعد أن وبَّخ ابنه، وقبل أن ينصرف الرجل سأل جدتي عن اسم ابنهم الذي قفز الجدار، فأجابت أمي من الداخل: رمان.
من يومها، وصار اسم تدليلى رمان.
ويعلق الأبنودي على هذه الواقعة قائلًا: لو لم يقتحمني الشعر ويتلبسني ويأخذني من كل هواية أو متعة أخرى لصرت لصًّا حاذقًا خفيف اليد.
لقاء الملك في كتاب "إمبارك"
ترك الأبنودى الغنم، وذهب إلى كتاب الشيخ إمبارك، وكان يوم التسميع في الكتاب يتم بالشاكوش وصبغة اليود، ومن لا يحفظ تُشق رأسه بشاكوش الشيخ.
وكان للشيخ مساعدان: همام ورمضان، يضعان كمية لا بأس بها من صبغة اليود في حفرة الرأس، وبعض لوزات قطن ببذرها، وكان يوم الخميس أيضًا هو الذي ندفع فيه للشيخ ثمنًا للعلم الذي نتلقاه، وهو عشرة مليمات إذا لم ندفعها كان عقابنا منه أشد من عقابنا عن عدم الحفظ ساعة التسميع.
وفي يوم عابر، جاء الشيخ مرتديًا ملابس نظيفة أنيقة على غير عادته، وكسّر العادات الحديدية التي رسخها في كتابه لما تغاضى عن طلب المال وهو يوم الخميس.
ودخل رجال يرتدون ملابس أنيقة، حاملين حقائب في أيديهم، وقال أحدهم: بمناسبة زيارة مولانا المعظم جلالة الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان إلى مدينة قنا لوضع حجر الأساس لمسجد سيدي عبد الرحيم، وبمناسبة ثبوت نسبه إلى الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وابتهاجًا بهذه المناسبة، قرر الملك الحبيب أن يهب كلا منكم نفحة وهدية ملكية، لكي تدعو له بالرفاء، وطول البقاء.
ثم فُتحت الحقائب، وإذ بلمعان ذهب ببصر الأولاد لبعض الوقت، فقد كانت الحقائب مليئة بعملات معدنية مضلعة لامعة، يطلق عليها التُمن وهي عملة قيمتها قرشان، وأخذوا يوزعون على كل طالب منهم 7 أتمان، فظفر عبدالرحمن بتلك الـ 14 قرشا من الملك فاروق شخصيًا.
مع دنقل والطاهر عبد الله
التقى الأبنودي والشاعر أمل دنقل في قنا لاستكمال التعليم الأساسي، وبعدها بفترة انضم إليهما الروائي والقاص الراحل يحيي الطاهر عبد الله، والذي ترك قريته كي يعيش معهما في قنا، ويقول الأبنودي: فوجئت بي أمي حين أخبرها أنه يريد أن يعيش معنا في بتنا، وقد سمحت له بذلك إلى أن اصطحبنا حين انتقلنا إلي القاهرة، وقد سلك طريق كتابة الرواية واشتهر في مجالها، وتمسكت أنا وأمل بكتابة الأشعار، وفي هذه الفترة بدأت أراسل الصحف في القاهرة، وكذلك مجموعة من الشعراء هناك.
ويأتي خروج الأبنودي من قنا بعد خلاف مع أبيه، لتحوله من كتابة الشعر الكلاسيكي الفصيح إلى الكتابة باللهجة العامية، ما دفع الشيخ إلى تمزيق كتابات الابن، ومنذ ذلك الحين اتخذ "الخال" قراره بالانتقال إلى العاصمة.
ولعب الحظ دورًا كبيرًا، عندما نشر له الشاعر الكبير صلاح جاهين أول قصائده في مجلة "صباح الخير"، في باب كان يحرره تحت عنوان "شاعر أعجبني".
وتناولت تلك القصيدة مشكلة القطن آنذاك، وأعجب بها "جاهين"، وقرر نشرها مع رسم لأكبر رسامي المجلة، ويقول الأبنودي: تلك البادرة فتحت لي مجالًا للاتصال بالناس في المحيط، وزيادة إقبالي على النظم، وتوطد علاقتي بصلاح جاهين، وكانت سببًا في دخولي عالم الطرب من أوسع أبوابه.
البدلة الفسفورية ومكافأة الإذاعة
علم الأبنودي أن قصيدته "دودة القطن" وقع غناؤها في الإذاعة، فاتصل بـ"جاهين" الذي أكد له ذلك، وطلب إليه أن يذهب إلى الأستاذ الشجاعي في الإذاعة.
في ذلك الوقت، ترك الأبنودي وصديقه "دنقل" العمل في محكمة قنا، وصادف غناء القصيدة مع تواجده في القاهرة. ولما كلفه جاهين بلقاء الأستاذ، أخذ يرتب للقاء على الطريقة القاهرية بعيدًا عن الجلباب، فاستلف بدلة من صديق له، يقول إن لونها كان مميزًا للغاية، فهو أصفر أو فسفوري، يجبر الناظر على أن يغمض عينيه لفرط تأثيرها.
قصد الأبنودي الإذاعة، وقابل الأستاذ الشجاعي، ودار بينهما حديث قصير، اختتمه المضيف بأن طلب إلى ضيفه الذهاب إلى الخزانة لتلقي أجر كلمات أغنية "دودة القطن"، 5 جنيهات وربع، ودعوة لكتابة كلمات 3 أغنيات جديدة.
بداية الصعود
نفّذ الشاب المتحمس طلب الشجاعي، وكتب 3 أغنيات مهمة، الأولى "تحت الشجر يا وهيبة" والثانية "بالسلامة يا حبيبي بالسلامة" وأغنية ثالثة.
وذهب بهم في الموعد المحدد، فتم توزيع الأغنيات على 3 ملحنين، وكانت واحدة من نصيب نجاح سلام، وأخرى غناها محمد رشدي.
ويقول الأبنودي: كانت أغنية "تحت الشجر" فاتحة خير لي ولمحمد رشدي، وأصبحنا صديقين ولم نفترق حتى لحظات حياته الأخيرة، ثم كتبت لشادية ولفايزة أحمد وآخرين من المطربين.
وكانت القاهرة في نهاية الخمسينات ساحة أدبية مليئة بالصالونات والأفكار المستمدة من الحماس للثورة الوليدة، وكان من الطبيعي أن تستوعب المواهب الجديدة.
وتاه الأبنودي في ليالي القاهرة الأدبية وأخذ يجرب في الشعر العامي حتى أصدر ديوانه الأول "الأرض والعيال" عام 1964.
واستطاع الشاب أن يطوّع كتابته للأغاني من أجل كسب العيش، إلى جانب الحفاظ على كونه شاعرًا يكتب بالعامية معبرًا عن قضايا وطنه.
كتبه
من أشهر أعماله السيرة الهلالية التي جمعها من شعراء الصعيد ولم يؤلفها.
ومن أشهر كتبه كتاب "أيامي الحلوة"، والذي نشره في حلقات منفصلة في ملحق أيامنا الحلوة بجريدة الأهرام تم جمعها في هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة، وفيه يحكي الأبنودي قصصاً وأحداثاً مختلفة من حياته في صعيد مصر.
صدر مؤخرًا عن دار "المصري" للنشر والتوزيع، كتاب "الخال" للكاتب الصحفي محمد توفيق، يتناول فيه سيرة الشاعر عبد الرحمن الأبنودي الذاتية.
ويرصد الكتاب قصص الأبنودي الآسرة، وتجاربه المليئة بالمفارقات والعداءات والنجاحات والمواقف.
وفي مقدمة كتابه، يقول توفيق: "هذا هو الخال كما عرفته.. مزيج بين الصراحة الشديدة والغموض الجميل، بين الفن والفلسفة، بين غاية التعقيد وقمة البساطة، بين مكر الفلاح وشهامة الصعيدي، بين ثقافة المفكرين وطيبة البسطاء.. هو السهل الممتنع، الذي ظن البعض - وبعض الظن إثم - أن تقليده سهل وتكراره ممكن".
من أشهر دواوينه الشعرية
الأرض والعيال (1964 - 1975 - 1985).
الزحمة (1967 - 1976 - 1985).
عماليات (1968).
جوابات حراجى القط (1969 - 1977 - 1985).
الفصول (1970 - 1985).
أحمد سماعين (1972 - 1985).
أنا والناس (1973).
بعد التحية والسلام (1975).
وجوه على الشط (1975 - 1978) قصيدة طويلة.
صمت الجرس (1975 - 1985).
المشروع والممنوع (1979 - 1985).
المد والجزر (1981) قصيدة طويلة.
الأحزان العادية (1981) ديوان مكتوب دراسة (محمد القدوسى).
السيرة الهلالية (1978) دراسة مترجمة.
الموت على الأسفلت (1988 - 1995) قصيدة طويلة.
سيرة بنى هلال الجزء الأول (1988).
سيرة بنى هلال الجزء الثاني (1988).
سيرة بنى هلال الجزء الثالث (1988).
سيرة بنى هلال الجزء الرابع (1991).
سيرة بنى هلال الجزء الخامس (1991).
الاستعمار العربي (1991 - 1992) قصيدة طويلة.
المختارات الجزء الأول (1994 - 1995).
أعماله المغناة وكتاباته للسينما
كتب الأبنودي العديد من الأغاني، من أشهرها.
عبد الحليم حافظ :عدى النهار، أحلف بسماها وبترابها، إبنك يقول لك يا بطل، أنا كل ما أقول التوبة، أحضان الحبايب، وغيرها.
محمد رشدي: تحت الشجر يا وهيبة، عدوية، وسع للنور، عرباوي.
فايزة أحمد: يمّا يا هوايا يمّا، مال علي مال.
نجاة الصغيرة: عيون القلب، قصص الحب الجميلة.
شادية: آه يا اسمراني اللون، قالى الوداع، أغانى فيلم شيء من الخوف.
صباح: ساعات ساعات.
وردة الجزائرية: طبعًا أحباب، قبل النهاردة.
محمد قندي: شباكين على النيل عنيكي.
ماجدة الرومي: جايي من بيروت، بهواكي يا مصر.
محمد منير: شوكولاتة، كل الحاجات بتفكرني، من حبك مش بريء، برة الشبابيك، الليلة ديا، يونس، عزيزة، قلبى مايشبهنيش، يا حمام، يا رمان.
كما كتب أغاني العديد من المسلسلات مثل "النديم"، و"ذئاب الجبل"، وغيرها، وكتب حوار وأغاني فيلم شيء من الخوف، وحوار فيلم الطوق والإسورة وكتب أغاني فيلم البريء وقد قام بدوره في مسلسل العندليب حكاية شعب الفنان محمود البزاوي.
جوائز الأبنودي
حصل الأبنودي على جائزة الدولة التقديرية عام 2001، ليكون بذلك أول شاعر عامية مصري يفوز بجائزة الدولة التقديرية، كما فاز بجائزة محمود درويش للإبداع العربي للعام 2014.
منقول عن بوابة الشرق