بل أيقول هؤلاء المشركون: إن محمدًا اختلق هذا القرآن؟ قل لهم -أيها الرسول-: إن اختلقته على الله فإنكم لا تقدرون أن تدفعوا عني من عقاب الله شيئًا, إن عاقبني على ذلك. هو سبحانه أعلم من كل شيء سواه بما تقولون في هذا القرآن, كفى بالله شاهدًا عليَّ وعليكم, وهو الغفور لمن تاب إليه, الرحيم بعباده المؤمنين.
قل -أيها الرسول- لمشركي قومك: ما كنتُ أول رسل الله إلى خلقه, وما أدري ما يفعل الله بي ولا بكم في الدنيا, ما أتبع فيما آمركم به وفيما أفعله إلا وحي الله الذي يوحيه إليَّ, وما أنا إلا نذير بيِّن الإنذار.
قل -أيها الرسول- لمشركي قومك: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله وكفرتم به, وشهد شاهد من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام على مثل هذا القرآن, وهو ما في التوراة من التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فصدَّق وعمل بما جاء في القرآن, وجحدتم ذلك استكبارًا, فهل هذا إلا أعظم الظلم وأشد الكفر؟ إن الله لا يوفِّق إلى الإسلام وإصابة الحق القوم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بالله.
وقال الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للذين آمنوا به: لو كان تصديقكم محمدًا على ما جاء به خيرًا ما سبقتمونا إلى التصديق به, وإذ لم يهتدوا بالقرآن ولم ينتفعوا بما فيه من الحق فسيقولون: هذا كذب, مأثور عن الناس الأقدمين.
ومن قبل هذا القرآن أنزلنا التوراة إمامًا لبني إسرائيل يقتدون بها, ورحمة لمن آمن بها وعمل بما فيها, وهذا القرآن مصدق لما قبله من الكتب, أنزلناه بلسان عربي؛ لينذر الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية, وبشرى للذين أطاعوا الله, فأحسنوا في إيمانهم وطاعتهم في الدنيا.
إن الذين قالوا: ربنا الله, ثم استقاموا على الإيمان به, فلا خوف عليهم من فزع يوم القيامة وأهواله, ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا وراءهم بعد مماتهم من حظوظ الدنيا.
ووصينا الإنسان أن يحسن في صحبته لوالديه بِرًّا بهما في حياتهما وبعد مماتهما, فقد حملته أمه جنينًا في بطنها على مشقة وتعب, وولدته على مشقة وتعب أيضًا, ومدة حمله وفطامه ثلاثون شهرًا. وفي ذكر هذه المشاق التي تتحملها الأم دون الأب, دليل على أن حقها على ولدها أعظم من حق الأب. حتى إذا بلغ هذا الإنسان نهاية قوته البدنية والعقلية, وبلغ أربعين سنة دعا ربه قائلا: ربي ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمتها عليَّ وعلى والديَّ, واجعلني أعمل صالحًا ترضاه, وأصلح لي في ذريتي, إني تبت إليك من ذنوبي, وإني من الخاضعين لك بالطاعة والمستسلمين لأمرك ونهيك, المنقادين لحكمك.
أولئك الذين نتقبل منهم أحسن ما عملوا من صالحات الأعمال, ونصفح عن سيئاتهم, في جملة أصحاب الجنة, هذا الوعد الذي وعدناهم به هو وعد الصدق الحق الذي لا شك فيه.
والذي قال لوالديه إذ دعواه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث: قبحًا لكما أتعِدانني أن أُخْرج من قبري حيًا, وقد مضت القرون من الأمم من قبلي, فهلكوا فلم يُبعث منهم أحد؟ ووالداه يسألان الله هدايته قائلَين له: ويلك, آمن وصدِّق واعمل صالحًا, إن وعد الله بالبعث حق لا شك فيه, فيقول لهما: ما هذا الذي تقولانه إلا ما سطَّره الأولون من الأباطيل, منقول من كتبهم.
أولئك الذين هذه صفتهم وجب عليهم عذاب الله, وحلَّت بهم عقوبته وسخطه في جملة أمم مضت مِن قبلهم مِنَ الجن والإنس على الكفر والتكذيب, إنهم كانوا خاسرين ببيعهم الهدى بالضلال, والنعيم بالعذاب.
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)
ولكل فريق من أهل الخير وأهل الشر منازل عند الله يوم القيمة; بأعمالهم التي عملوها في الدنيا, كل على وَفْق مرتبته؛ وليوفيهم الله جزاء أعمالهم, وهم لا يُظلمون بزيادة في سيئاتهم, ولا بنقص من حسناتهم.
ويوم يعرض الذين كفروا على النار للعذاب, فيقال لهم توبيخًا: لقد أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها, فاليوم - أيها الكفار- تُجْزَون عذاب الخزي والهوان في النار؛ بما كنتم تتكبرون في الأرض بغير الحق, وبما كنتم تخرجون عن طاعة الله.
واذكر -أيها الرسول- نبيَّ الله هودًا أخا عاد في النَّسب لا في الدين, حين أنذر قومه أن يحل بهم عقاب الله, وهم في منازلهم المعروفة بـ "الأحقاف", وهي الرمال الكثيرة جنوب الجزيرة العربية, وقد مضت الرسل بإنذار قومها قبل هود وبعده: بأن لا تشركوا مع الله شيئًا في عبادتكم له, إني أخاف عليكم عذاب الله في يوم يَعْظُم هوله, وهو يوم القيامة.
قال هود عليه السلام: إنما العلم بوقت مجيء ما وُعدتم به من العذاب عند الله, وإنما أنا رسول الله إليكم, أبلغكم عنه ما أرسلني به, ولكني أراكم قومًا تجهلون في استعجالكم العذاب, وجرأتكم على الله.
فلما رأوا العذاب الذي استعجلوه عارضًا في السماء متجهًا إلى أوديتهم قالوا: هذا سحاب ممطر لنا, فقال لهم هود عليه السلام: ليس هو بعارض غيث ورحمة كما ظننتم, بل هو عارض العذاب الذي استعجلتموه, فهو ريح فيها عذاب مؤلم موجع.
تدمِّر كل شيء تمر به مما أُرسلت بهلاكه بأمر ربها ومشيئته, فأصبحوا لا يُرى في بلادهم شيء إلا مساكنهم التي كانوا يسكنونها, مثل هذا الجزاء نجزي القوم المجرمين؛ بسبب جرمهم وطغيانهم.
ولقد يسَّرنا لعاد أسباب التمكين في الدنيا على نحوٍ لم نمكنكم فيه معشر كفار قريش, وجعلنا لهم سمعًا يسمعون به, وأبصارًا يبصرون بها, وأفئدة يعقلون بها, فاستعملوها فيما يسخط الله عليهم, فلم تغن عنهم شيئًا إذ كانوا يكذِّبون بحجج الله, ونزل بهم من العذاب ما سخروا به واستعجلوه. وهذا وعيد من الله جل شأنه, وتحذير للكافرين.
ولقد أهلكنا ما حولكم يا أهل "مكة" من القرى كعاد وثمود, فجعلناها خاوية على عروشها, وبيَّنَّا لهم أنواع الحجج والدلالات ؛ لعلهم يرجعون عما كانوا عليه من الكفر بالله وآياته.
فهلا نصر هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم الخالية آلهتُهم التي اتخذوا عبادتها قربانًا يتقربون بها إلى ربهم; لتشفع لهم عنده, بل ضلَّت عنهم آلهتهم, فلم يجيبوهم, ولا دافعوا عنهم, وذلك كذبهم وما كانوا يَفْتَرون في اتخاذهم إياهم آلهة.
واذكر -أيها الرسول- حين بعثنا إليك, طائفة من الجن يستمعون منك القرآن, فلما حضروا, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ, قال بعضهم لبعض: أنصتوا; لنستمع القرآن, فلما فرغ الرسول من تلاوة القرآن, وقد وعَوه وأثَّر فيهم, رجعوا إلى قومهم منذرين ومحذرين لهم بأس الله, إن لم يؤمنوا به.
ومن لا يُجِبْ رسول الله إلى ما دعا إليه فليس بمعجز الله في الأرض إذا أراد عقوبته, وليس له من دون الله أنصار يمنعونه من عذابه, أولئك في ذَهاب واضح عن الحق.
أغَفَلوا ولم يعلموا أنَّ الله الذي خلق السموات والأرض على غير مثال سبق, ولم يعجز عن خلقهن, قادر على إحياء الموتى الذين خلقهم أوّلا؟ بلى, ذلك أمر يسير على الله تعالى الذي لا يعجزه شيء, إنه على كل شيء قدير.
ويوم القيامة يُعْرَض الذين كفروا على نار جهنم للعذاب فيقال لهم: أليس هذا العذاب بالحق؟ فيجيبون قائلين: بلى وربنا هو الحق, فيقال لهم: فذوقوا العذاب بما كنتم تجحدون عذاب النار وتنكرونه في الدنيا.
فاصبر -أيها الرسول- على ما أصابك مِن أذى قومك المكذبين لك, كما صبر أولو العزم من الرسل من قبلك- وهم، على المشهور: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وأنت منهم- ولا تستعجل لقومك العذاب; فحين يقع ويرونه كأنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار, هذا بلاغ لهم ولغيرهم. ولا يُهْلَكُ بعذاب الله إلا القوم الخارجون عن أمره وطاعته.
والذين صدَّقوا الله واتَّبَعوا شرعه وصدَّقوا بالكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الحق الذي لا شك فيه من ربهم, عفا عنهم وستر عليهم ما عملوا من السيئات, فلم يعاقبهم عليها, وأصلح شأنهم في الدينا والآخرة.
ذلك الإضلال والهدى سببه أن الذين كفروا اتَّبَعوا الشيطان فأطاعوه, وأن الذين آمنوا اتَّبَعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من النور والهدى, كما بيَّن الله تعالى فِعْلَه بالفريقين أهل الكفر وأهل الإيمان بما يستحقان يضرب سبحانه للناس أمثالهم, فيلحق بكل قوم من الأمثال والأشكال ما يناسبه.
فإذا لقيتم- أيها المؤمنون- الذين كفروا في ساحات الحرب فاصدقوهم القتال, واضربوا منهم الأعناق, حتى إذا أضعفتموهم بكثرة القتل, وكسرتم شوكتهم, فأحكموا قيد الأسرى: فإما أن تَمُنُّوا عليهم بفك أسرهم بغير عوض, وإما أن يفادوا أنفسهم بالمال أو غيره, وإما أن يُسْتَرَقُّوا أو يُقْتَلوا, واستمِرُّوا على ذلك حتى تنتهي الحرب. ذلك الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين ومداولة الأيام بينهم, ولو يشاء الله لانتصر للمؤمنين من الكافرين بغير قتال, ولكن جعل عقوبتهم على أيديكم, فشرع الجهاد؛ ليختبركم بهم, ولينصر بكم دينه. والذين قُتلوا في سبيل الله من المؤمنين فلن يُبْطِل الله ثواب أعمالهم, سيوفقهم أيام حياتهم في الدنيا إلى طاعته ومرضاته, ويُصْلح حالهم وأمورهم وثوابهم في الدنيا والآخرة, ويدخلهم الجنة, عرَّفهم بها ونعتها لهم، ووفقهم للقيام بما أمرهم به -ومن جملته الشهادة في سبيله-، ثم عرَّفهم إذا دخلوا الجنة منازلهم بها.
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إن تنصروا دين الله بالجهاد في سبيله, والحكم بكتابه, وامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, ينصركم الله على أعدائكم, ويثبت أقدامكم عند القتال.
والذين كفروا فهلاكًا لهم, وأذهب الله ثواب أعمالهم؛ ذلك بسبب أنهم كرهوا كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فكذبوا به, فأبطل أعمالهم; لأنها كانت في طاعة الشيطان.
أفلم يَسِرْ هؤلاء الكفار في أرض الله معتبرين بما حلَّ بالأمم المكذبة قبلهم من العقاب؟ دمَّر الله عليهم ديارهم, وللكافرين أمثال تلك العاقبة التي حلت بتلك الأمم.
إن الله يدخل الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار تَكْرِمَةً لهم, ومثل الذين كفروا في أكلهم وتمتعهم بالدنيا, كمثل الأنعام من البهائم التي لا همَّ لها إلا في الاعتلاف دون غيره, ونار جهنم مسكن لهم ومأوى.
أفمن كان على برهان واضح من ربه والعلم بوحدانيته, كمن حسَّن له الشيطان قبيح عمله, واتبع ما دعته إليه نفسه من معصية الله وعبادة غيره مِن غير حجة ولا برهان؟ لا يستوون.
صفة الجنة التي وعدها الله المتقين: فيها أنهارٌ عظيمة من ماء غير متغيِّر, وأنهار من لبن لم يتغيَّر طعمه, وأنهار من خمر يتلذذ به الشاربون, وأنهار من عسل قد صُفِّي من القذى, ولهؤلاء المتقين في هذه الجنة جميع الثمرات من مختلف الفواكه وغيرها, وأعظم من ذلك السَّتر والتجاوزُ عن ذنوبهم, هل مَن هو في هذه الجنة كمَن هو ماكث في النار لا يخرج منها, وسُقوا ماء تناهى في شدة حره فقطَّع أمعاءهم؟
ومن هؤلاء المنافقين مَن يستمع إليك -أيها النبي- بغير فهم؛ تهاونًا منهم واستخفافًا, حتى إذا انصرفوا من مجلسك قالوا لمن حضروا مجلسك من أهل العلم بكتاب الله على سبيل الاستهزاء: ماذا قال محمد الآن؟ أولئك الذين ختم الله على قلوبهم, فلا تفقه الحق ولا تهتدي إليه, واتبعوا أهواءهم في الكفر والضلال.
ويقول الذين آمنوا بالله ورسوله: هلا نُزِّلت سورة من الله تأمرنا بجهاد الكفار, فإذا أُنزِلت سورة محكمة بالبيان والفرائض وذُكر فيها الجهاد, رأيت الذين في قلوبهم شك في دين الله ونفاق ينظرون إليك -أيها النبي- نظر الذي قد غُشِيَ عليه خوفَ الموت, فأولى لهؤلاء الذين في قلوبهم مرض أن يطيعوا الله, وأن يقولوا قولا موافقًا للشرع. فإذا وجب القتال وجاء أمر الله بِفَرْضه كره هؤلاء المنافقون ذلك, فلو صدقوا الله في الإيمان والعمل لكان خيرًا لهم من المعصية والمخالفة.
ذلك الإمداد لهم حتى يتمادوا في الكفر ; بسبب أنهم قالوا لليهود الذين كرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر الذي هو خلاف لأمر الله وأمر رسوله, والله تعالى يعلم ما يخفيه هؤلاء ويسرونه, فليحذر المسلم من طاعة غير الله فيما يخالف أمر الله سبحانه, وأمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
ذلك العذاب الذي استحقوه ونالوه؛ بسبب أنهم اتبعوا ما (ط الله عليهم من طاعة الشيطان, وكرهوا ما يرضيه عنهم من العمل الصالح, ومنه قتال الكفار بعدما افترضه عليهم, فأبطل الله ثواب أعمالهم من صدقة وصلة رحم وغير ذلك.
ولو نشاء -أيها النبي- لأريناك أشخاصهم, فلعرفتهم بعلامات ظاهرة فيهم, ولتعرفنَّهم فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم. والله تعالى لا تخفى عليه أعمال مَن أطاعه ولا أعمال من عصاه, وسيجازي كلا بما يستحق.
ولنختبرنكم- أيها المؤمنون- بالقتال والجهاد لأعداء الله حتى يظهر ما علمه سبحانه في الأزل؛ لنميز أهل الجهاد منكم والصبر على قتال أعداء الله, ونختبر أقوالكم وأفعالكم, فيظهر الصادق منكم من الكاذب.
إن الذين جحدوا أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له, وصدوا الناس عن دينه, وخالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاربوه من بعد ما جاءتهم الحجج والآيات أنه نبي من عند الله, لن يضروا دين الله شيئًا, وسيُبْطِل ثواب أعمالهم التي عملوها في الدنيا؛ لأنهم لم يريدوا بها وجه الله تعالى.
إن الذين جحدوا أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له وصدُّوا الناس عن دينه, ثم ماتوا على ذلك, فلن يغفر الله لهم, وسيعذبهم عقابًا لهم على كفرهم, ويفضحهم على رؤوس الأشهاد.
فلا تضعفوا -أيها المؤمنون بالله ورسوله- عن جهاد المشركين, وتجْبُنوا عن قتالهم, وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة, وأنتم القاهرون لهم والعالون عليهم, والله تعالى معكم بنصره وتأييده. وفي ذلك بشارة عظيمة بالنصر والظَّفَر على الأعداء. ولن يُنْقصكم الله ثواب أعمالكم.
إنما الحياة الدنيا لعب وغرور. وإن تؤمنوا بالله ورسوله, وتتقوا الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه, يؤتكم ثواب أعمالكم, ولا يسألْكم إخراج أموالكم جميعها في الزكاة, بل يسألكم إخراج بعضها. إن يسألكم أموالكم, فيُلِحَّ عليكم ويجهدكم, تبخلوا بها وتمنعوه إياها, ويظهر ما في قلوبكم من الحقد إذا طلب منكم ما تكرهون بذله.
ها أنتم -أيها المؤمنون- تُدْعَون إلى النفقة في جهاد أعداء الله ونصرة دينه, فمنكم مَن يَبْخَلُ بالنفقة في سبيل الله, ومَن يَبْخَلْ فإنما يبخل عن نفسه, والله تعالى هو الغنيُّ عنكم وأنتم الفقراء إليه, وإن تتولوا عن الإيمان بالله وامتثال أمره يهلكُّم, ويأت بقوم آخرين, ثم لا يكونوا أمثالكم في التولي عن أمر الله, بل يطيعونه ويطيعون رسوله, ويجاهدون في سبيله بأموالهم وأنفسهم.
الدولة : عدد الرسائل : 51922تاريخ التسجيل : 08/12/2007المزاج : بطاقة عضوية :
موضوع: رد: تفسير القرآن السبت 10 أبريل 2010 - 0:47
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة الفتح
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)
إنا فتحنا لك -أيها الرسول- فتحًا مبينًا, يظهر الله فيه دينك, وينصرك على عدوك, وهو هدنة "الحديبية" التي أمن الناس بسببها بعضهم بعضًا, فاتسعت دائرة الدعوة لدين الله, وتمكن من يريد الوقوف على حقيقة الإسلام مِن معرفته, فدخل الناس تلك المدة في دين الله أفواجًا؛ ولذلك سمَّاه الله فتحًا مبينًا، أي ظاهرًا جليًّا.
فتحنا لك ذلك الفتح, ويسَّرناه لك؛ ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؛ بسبب ما حصل من هذا الفتح من الطاعات الكثيرة وبما تحملته من المشقات, ويتم نعمته عليك بإظهار دينك ونصرك على أعدائك, ويرشدك طريقًا مستقيمًا من الدين لا عوج فيه، وينصرك الله نصرًا قويًّا لا يَضْعُف فيه الإسلام.
هو الله الذي أنزل الطمأنينة في قلوب المؤمنين بالله ورسوله يوم "الحديبية" فسكنت, ورسخ اليقين فيها؛ ليزدادوا تصديقًا لله واتباعًا لرسوله مع تصديقهم واتباعهم. ولله سبحانه وتعالى جنود السموات والأرض ينصر بهم عباده المؤمنين. وكان الله عليمًا بمصالح خلقه, حكيمًا في تدبيره وصنعه.
ليدخل الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري مِن تحت أشجارها وقصورها الأنهار, ماكثين فيها أبدًا, ويمحو عنهم سيِّئ ما عملوا, فلا يعاقبهم عليه, وكان ذلك الجزاء عند الله نجاة من كل غم, وظَفَرًا بكل مطلوب.
ويعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين يظنون ظنًا سيئًا بالله أنه لن ينصر نبيه والمؤمنين معه على أعدائهم, ولن يُظهر دينه, فعلى هؤلاء تدور دائرة العذاب وكل ما يسوءهم, وغضب الله عليهم, وطردهم من رحمته, وأعدَّ لهم نار جهنم, وساءت منزلا يصيرون إليه.
إنا أرسلناك -أيها الرسول- شاهدًا على أمتك بالبلاغ, مبينًا لهم ما أرسلناك به إليهم, ومبشرًا لمن أطاعك بالجنة, ونذيرًا لمن عصاك بالعقاب العاجل والآجل؛ لتؤمنوا بالله ورسوله, وتنصروا الله بنصر دينه, وتعظموه, وتسبحوه أول النهار وآخره.
إن الذين يبايعونك -أيها النبي- بـ "الحديبية" على القتال إنما يبايعون الله, ويعقدون العقد معه ابتغاء جنته ورضوانه, يد الله فوق أيديهم, فهو معهم يسمع أقوالهم, ويرى مكانهم, ويعلم ضمائرهم وظواهرهم, فمن نقض بيعته فإنما يعود وبال ذلك على نفسه, ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الصبر عند لقاء العدو في سبيل الله ونصرة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, فسيعطيه الله ثوابًا جزيلا وهو الجنة. وفي الآية إثبات صفة اليد لله تعالى بما يليق به سبحانه, دون تشبيه ولا تكييف.
سيقول لك -أيها النبي- الذين تخلَّفوا من الأعراب عن الخروج معك إلى "مكة" إذا عاتبتهم: شغلتنا أموالنا وأهلونا, فاسأل ربك أن يغفر لنا تخلُّفنا, يقولون ذلك بألسنتهم, ولا حقيقة له في قلوبهم, قل لهم: فمن يملك لكم من الله شيئًا إن أراد بكم شرًا أو خيرًا؟ ليس الأمر كما ظن هؤلاء المنافقون أن الله لا يعلم ما انطوت عليه بواطنهم من النفاق, بل إنه سبحانه كان بما يعملون خبيرًا, لا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه.
وليس الأمر كما زعمتم من انشغالكم بالأموال والأهل, بل إنكم ظننتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه سيَهْلكون, ولا يَرْجعون إليكم أبدًا, وحسَّن الشيطان ذلك في قلوبكم, وظننتم ظنًا سيئًا أن الله لن ينصر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أعدائهم, وكنتم قومًا هَلْكى لا خير فيكم.
سيقول المخلَّفون, إذا انطلقت -أيها النبي- أنت وأصحابك إلى غنائم "خيبر" التي وعدكم الله بها, اتركونا نذهب معكم إلى "خيبر", يريدون أن يغيِّروا بذلك وعد الله لكم. قل لهم: لن تخرجوا معنا إلى "خيبر"؛ لأن الله تعالى قال لنا من قبل رجوعنا إلى "المدينة": إن غنائم "خيبر" هي لمن شهد "الحديبية" معنا, فسيقولون: ليس الأمر كما تقولون, إن الله لم يأمركم بهذا, إنكم تمنعوننا من الخروج معكم حسدًا منكم؛ لئلا نصيب معكم الغنيمة, وليس الأمر كما زعموا, بل كانوا لا يفقهون عن الله ما لهم وما عليهم من أمر الدين إلا يسيرًا.
قل للذين تخلَّفوا من الأعراب (وهم البدو) عن القتال: ستُدْعون إلى قتال قوم أصحاب بأس شديد في القتال, تقاتلونهم أو يسلمون من غير قتال, فإن تطيعوا الله فيما دعاكم إليه مِن قتال هؤلاء القوم يؤتكم الجنة, وإن تعصوه كما فعلتم حين تخلفتم عن السير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى "مكة", يعذبكم عذابًا موجعًا.
ليس على الأعمى منكم- أيها الناس- إثم, ولا على الأعرج إثم, ولا على المريض إثم, في أن يتخلَّفوا عن الجهاد مع المؤمنين؛ لعدم استطاعتهم. ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري مِن تحت أشجارها وقصورها الأنهار, ومن يعص الله ورسوله, فيتخلَّف عن الجهاد مع المؤمنين, يعذبه عذابًا مؤلمًا موجعًا.
لقد رضي الله عن المؤمنين حين بايعوك -أيها النبي- تحت الشجرة (وهذه هي بيعة الرضوان في "الحديبية") فعلم الله ما في قلوب هؤلاء المؤمنين من الإيمان والصدق والوفاء, فأنزل الله الطمأنينة عليهم وثبَّت قلوبهم, وعوَّضهم عمَّا فاتهم بصلح "الحديبية" فتحًا قريبًا, وهو فتح "خيبر", ومغانم كثيرة تأخذونها من أموال يهود "خيبر". وكان الله عزيزًا في انتقامه من أعدائه, حكيمًا في تدبير أمور خلقه.
وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها في أوقاتها التي قدَّرها الله لكم فعجَّل لكم غنائم "خيبر", وكفَّ أيدي الناس عنكم, فلم ينلكم سوء مما كان أعداؤكم أضمروه لكم من المحاربة والقتال, ومن أن ينالوا ممن تركتموهم وراءكم في "المدينة", ولتكون هزيمتهم وسلامتكم وغنيمتكم علامة تعتبرون بها, وتستدلون على أن الله حافظكم وناصركم, ويرشدكم طريقا مستقيما لا اعوجاج فيه. وقد وعدكم الله غنيمة أخرى لم تقدروا عليها, الله سبحانه وتعالى قادر عليها, وهي تحت تدبيره وملكه, وقد وعدكموها, ولا بد مِن وقوع ما وعد به. وكان الله على كل شيء قديرًا لا يعجزه شيء. ولو قاتلكم كفار قريش بـ "مكة" لانهزموا عنكم وولوكم ظهورهم, كما يفعل المنهزم في القتال, ثم لا يجدون لهم من دون الله وليًا يواليهم على حربكم, ولا نصيرًا يعينهم على قتالكم.
وهو الذي كفَّ أيدي المشركين عنكم, وأيديكم عنهم ببطن "مكة" من بعد ما قَدَرْتم عليهم, فصاروا تحت سلطانكم (وهؤلاء المشركون هم الذين خرجوا على عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ"الحديبية", فأمسكهم المسلمون ثم تركوهم ولم يقتلوهم, وكانوا نحو ثمانين رجلا) وكان الله بأعمالكم بصيرًا, لا تخفى عليه خافية.
كفار قريش هم الذين جحدوا توحيد الله, وصدُّوكم يوم "الحديبية" عن دخول المسجد الحرام, ومنعوا الهدي, وحبسوه أن يبلغ محل نحره, وهو الحرم. ولولا رجال مؤمنون مستضعفون ونساء مؤمنات بين أظهر هؤلاء الكافرين بـ "مكة", يكتمون إيمانهم خيفة على أنفسهم لم تعرفوهم؛ خشية أن تطؤوهم بجيشكم فتقتلوهم, فيصيبكم بذلك القتل إثم وعيب وغرامة بغير علم, لكنَّا سلَّطناكم عليهم؛ ليدخل الله في رحمته من يشاء فيَمُنَّ عليهم بالإيمان بعد الكفر, لو تميَّز هؤلاء المؤمنون والمؤمنات عن مشركي "مكة" وخرجوا من بينهم, لعذَّبنا الذين كفروا وكذَّبوا منهم عذابًا مؤلمًا موجعًا.
إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الأنَفَة أنَفَة الجاهلية؛ لئلا يقروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك امتناعهم أن يكتبوا في صلح "الحديبية" " الرحمن الرحيم" وأبوا أن يكتبوا "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله", فأنزل الله الطمأنينة على رسوله وعلى المؤمنين معه, وألزمهم قول "لا إله إلا الله" التي هي رأس كل تقوى, وكان الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه أحق بكلمة التقوى من المشركين, وكانوا كذلك أهل هذه الكلمة دون المشركين. وكان الله بكل شيء عليمًا لا يخفى عليه شيء.
لقد صدق الله رسوله محمدًا رؤياه التي أراها إياه بالحق أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين, لا تخافون أهل الشرك, محلِّقين رؤوسكم ومقصِّرين, فعلم الله من الخير والمصلحة (في صرفكم عن "مكة" عامكم ذلك ودخولكم إليها فيما بعد) ما لم تعلموا أنتم, فجعل مِن دون دخولكم "مكة" الذي وعدتم به, فتحًا قريبًا, وهو هدنة "الحديبية" وفتح "خيبر".
هو الذي أرسل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، بالبيان الواضح ودين الإسلام؛ ليُعْليه على الملل كلها, وحسبك -أيها الرسول- بالله شاهدًا على أنه ناصرك ومظهر دينك على كل دين.
محمد رسول الله, والذين معه على دينه أشداء على الكفار, رحماء فيما بينهم, تراهم ركعًا سُجَّدًا لله في صلاتهم, يرجون ربهم أن يتفضل عليهم, فيدخلهم الجنة, ويرضى عنهم, علامة طاعتهم لله ظاهرة في وجههم من أثر السجود والعبادة, هذه صفتهم في التوراة. وصفتهم في الإنجيل كصفة زرع أخرج ساقه وفرعه, ثم تكاثرت فروعه بعد ذلك, وشدت الزرع, فقوي واستوى قائمًا على سيقانه جميلا منظره, يعجب الزُّرَّاع؛ ليَغِيظ بهؤلاء المؤمنين في كثرتهم وجمال منظرهم الكفار. وفي هذا دليل على كفر من أبغض الصحابة -رضي الله عنهم-; لأن من غاظه الله بالصحابة, فقد وُجد في حقه موجِب ذاك, وهو الكفر. وعد الله الذين آمنوا منهم بالله ورسوله وعملوا ما أمرهم الله به, واجتنبوا ما نهاهم عنه, مغفرة لذنوبهم, وثوابًا جزيلا لا ينقطع, وهو الجنة. (ووعد الله حق مصدَّق لا يُخْلَف, وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم في استحقاق المغفرة والأجر العظيم, ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة, رضي الله عنهم وأرضاهم).
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
- سورة الحجرات يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تقضوا أمرًا دون أمر الله ورسوله من شرائع دينكم فتبتدعوا, وخافوا الله في قولكم وفعلكم أن يخالَف أمر الله ورسوله, إن الله سميع لأقوالكم, عليم بنياتكم وأفعالكم. وفي هذا تحذير للمؤمنين أن يبتدعوا في الدين, أو يشرعوا ما لم يأذن به الله.
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي عند مخاطبتكم له, ولا تجهروا بمناداته كما يجهر بعضكم لبعض, وميِّزوه في خطابه كما تميَّز عن غيره في اصطفائه لحمل رسالة ربه, ووجوب الإيمان به, ومحبته وطاعته والاقتداء به؛ خشية أن تبطل أعمالكم, وأنتم لا تشعرون, ولا تُحِسُّون بذلك.
ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرًا لهم عند الله; لأن الله قد أمرهم بتوقيرك, والله غفور لما صدر عنهم جهلا منهم من الذنوب والإخلال بالآداب, رحيم بهم حيث لم يعاجلهم بالعقوبة.
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إن جاءكم فاسق بخبر فتثبَّتوا من خبره قبل تصديقه ونقله حتى تعرفوا صحته؛ خشية أن تصيبوا قومًا برآء بجناية منكم, فتندموا على ذلك.
واعلموا أن بين أظهركم رسولَ الله فتأدبوا معه؛ فإنه أعلم منكم بما يصلح لكم, يريد بكم الخير, وقد تريدون لأنفسكم من الشر والمضرة ما لا يوافقكم الرسول عليه, لو يطيعكم في كثير من الأمر مما تختارونه لأدى ذلك إلى مشقتكم, ولكن الله حبب إليكم الإيمان وحسَّنه في قلوبكم, فآمنتم, وكرَّه إليكم الكفرَ بالله والخروجَ عن طاعته, ومعصيتَه, أولئك المتصفون بهذه الصفات هم الراشدون السالكون طريق الحق.
وإن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا فأصلحوا -أيها المؤمنون- بينهما بدعوتهما إلى الاحتكام إلى كتب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والرضا بحكمهما, فإن اعتدت إحدى الطائفتين وأبت الإجابة إلى ذلك, فقاتلوها حتى ترجع إلى حكم الله ورسوله, فإن رجعت فأصلحوا بينهما بالإنصاف, واعدلوا في حكمكم بأن لا تتجاوزوا في أحكامكم حكم الله وحكم رسوله, إن الله يحب العادلين في أحكامهم القاضين بين خلقه بالقسط. وفي الآية إثبات صفة المحبة لله على الحقيقة, كما يليق بجلاله سبحانه.
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشريعته لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين؛ عسى أن يكون المهزوء به منهم خيرًا من الهازئين, ولا يهزأ نساء مؤمنات من نساء مؤمنات; عسى أن يكون المهزوء به منهنَّ خيرًا من الهازئات, ولا يَعِبْ بعضكم بعضًا, ولا يَدْعُ بعضكم بعضًا بما يكره من الألقاب, بئس الصفة والاسم الفسوق, وهو السخرية واللمز والتنابز بالألقاب, بعد ما دخلتم في الإسلام وعقلتموه, ومن لم يتب من هذه السخرية واللمز والتنابز والفسوق فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب هذه المناهي.
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه اجتنبوا كثيرًا من ظن السوء بالمؤمنين; إن بعض ذلك الظن إثم, ولا تُفَتِّشوا عن عورات المسلمين, ولا يقل بعضكم في بعضٍ بظهر الغيب ما يكره. أيحب أحدكم أكل لحم أخيه وهو ميت؟ فأنتم تكرهون ذلك, فاكرهوا اغتيابه. وخافوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه. إن الله تواب على عباده المؤمنين, رحيم بهم.
يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من أب واحد هو آدم, وأُم واحدة هي حواء، فلا تفاضل بينكم في النسب, وجعلناكم بالتناسل شعوبًا وقبائل متعددة؛ ليعرف بعضكم بعضًا, إن أكرمكم عند الله أشدكم اتقاءً له. إن الله عليم بالمتقين, خبير بهم.
قالت الأعراب (وهم البدو): آمنا بالله ورسوله إيمانًا كاملا قل لهم -أيها النبي-: لا تدَّعوا لأنفسكم الإيمان الكامل, ولكن قولوا: أسلمنا, ولم يدخل بعدُ الإيمان في قلوبكم, وإن تطيعوا الله ورسوله لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئًا. إن الله غفور لمن تاب مِن ذنوبه, رحيم به. وفي الآية زجر لمن يُظهر الإيمان, ومتابعة السنة, وأعماله تشهد بخلاف ذلك.
إنما المؤمنون الذين صدَّقوا بالله وبرسوله وعملوا بشرعه, ثم لم يرتابوا في إيمانهم, وبذلوا نفائس أموالهم وأرواحهم في الجهاد في سبيل الله وطاعته ورضوانه, أولئك هم الصادقون في إيمانهم.
قل -أيها النبي- لهؤلاء الأعراب: أتُخَبِّرون الله بدينكم وبما في ضمائركم, والله يعلم ما في السموات وما في الأرض؟ والله بكل شيء عليم, لا يخفى عليه ما في قلوبكم من الإيمان أو الكفر, والبر أو الفجور.
يَمُنُّ هؤلاء الأعراب عليك -أيها النبي- بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم لك, قل لهم: لا تَمُنُّوا عليَّ دخولكم في الإسلام ; فإنَّ نفع ذلك إنما يعود عليكم, ولله المنة عليكم فيه أنْ وفقكم للإيمان به وبرسوله, إن كنتم صادقين في إيمانكم.
أغَفَلوا حين كفروا بالبعث, فلم ينظروا إلى السماء فوقهم, كيف بنيناها مستوية الأرجاء, ثابتة البناء, وزيناها بالنجوم, وما لها من شقوق وفتوق, فهي سليمة من التفاوت والعيوب؟
أنبتنا ذلك رزقًا للعباد يقتاتون به حسب حاجاتهم, وأحيينا بهذا الماء الذي أنزلناه من السماء بلدة قد أجدبت وقحطت, فلا زرع فيها ولا نبات, كما أحيينا بذلك الماء الأرض الميتة نخرجكم يوم القيامة أحياء بعد الموت.
كذَّبت قبل هؤلاء المشركين من قريش قومُ نوح وأصحاب البئر وثمود, وعاد وفرعون وقوم لوط, وأصحاب الأيكة قومُ شعيب, وقوم تُبَّع الحِمْيَري, كل هؤلاء الأقوام كذَّبوا رسلهم, فحق عليهم الوعيد الذي توعدهم الله به على كفرهم.
أفَعَجَزْنا عن ابتداع الخلق الأول الذي خلقناه ولم يكن شيئًا, فنعجز عن إعادتهم خلقًا جديدًا بعد فنائهم؟ لا يعجزنا ذلك, بل نحن عليه قادرون, ولكنهم في حَيْرة وشك من أمر البعث والنشور.
يقول الله للمَلَكين السائق والشهيد بعد أن يفصل بين الخلائق: ألقيا في جهنم كل جاحد أن الله هو الإلهُ الحقُّ، كثيرَ الكفر والتكذيب معاند للحق, منَّاع لأداء ما عليه من الحقوق في ماله, مُعْتدٍ على عباد الله وعلى حدوده, شاكٍّ في وعده ووعيده, الذي أشرك بالله, فعبد معه معبودًا آخر مِن خلقه, فألقياه في عذاب جهنم الشديد.
اذكر -أيها الرسول- لقومك يوم نقول لجهنم يوم القيامة: هل امتلأت؟ وتقول جهنم: هل من زيادة من الجن والإنس؟ فيضع الرب -جل جلاله- قدمه فيها, فينزوي بعضها على بعض, وتقول: قط, قط.
يقال لهم: هذا الذي كنتم توعدون به - أيها المتقون - لكل تائب مِن ذنوبه, حافظ لكل ما قَرَّبه إلى ربه, من الفرائض والطاعات, مَن خاف الله في الدنيا ولقيه يوم القيامة بقلب تائب من ذنوبه.
وأهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قريش أممًا كثيرة, كانوا أشد منهم قوة وسطوة, فطوَّفوا في البلاد وعمَّروا ودمَّروا فيها, هل من مهرب من عذاب الله حين جاءهم؟
ولقد خلقنا السموات السبع والأرض وما بينهما من أصناف المخلوقات في ستة أيام, وما أصابنا من ذلك الخلق تعب ولا نَصَب. وفي هذه القدرة العظيمة دليل على قدرته -سبحانه - على إحياء الموتى من باب أولى.
فاصبر -أيها الرسول- على ما يقوله المكذبون, فإن الله لهم بالمرصاد, وصلِّ لربك حامدًا له صلاة الصبح قبل طلوع الشمس وصلاة العصر قبل الغروب, وصلِّ من الليل, وسبِّحْ بحمد ربك عقب الصلوات.
واستمع -أيها الرسول- يوم ينادي المَلَك بنفخه في "القرن" من مكان قريب, يوم يسمعون صيحة البعث بالحق الذي لا شك فيه ولا امتراء, ذلك يوم خروج أهل القبور من قبورهم.
إنَّا نحن نحيي الخلق ونميتهم في الدنيا, وإلينا مصيرهم جميعًا يوم القيامة للحساب والجزاء, يوم تتصدع الأرض عن الموتى المقبورين بها, فيخرجون مسرعين إلى الداعي, ذلك الجمع في موقف الحساب علينا سهل يسير.
نحن أعلم بما يقول هؤلاء المشركون مِن افتراء على الله وتكذيب بآياته, وما أنت -أيها الرسول- عليهم بمسلَّط; لتجبرهم على الإسلام, وإنما بُعِثْتَ مبلِّغًا, فذكِّر بالقرآن من يخشى وعيدي; لأن مَن لا يخاف الوعيد لا يذَّكر.
أقسم الله تعالى بالرياح المثيرات للتراب, فالسحب الحاملات ثقلا عظيمًا من الماء, فالسفن التي تجري في البحار جريًا ذا يسر وسهولة, فالملائكة التي تُقَسِّم أمر الله في خلقه. إن الذي توعدون به- أيها الناس- من البعث والحساب لكائن حق يقين, وإن الحساب والثواب على الأعمال لكائن لا محالة. وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
وأقسم الله تعالى بالسماء ذات الخَلْق الحسن, إنكم- أيها المكذبون- لفي قول مضطرب في هذا القرآن, وفي الرسول صلى الله عليه وسلم. يُصرف عن القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم مَن صُرف عن الإيمان بهما؛ لإعراضه عن أدلة الله وبراهينه اليقينية فلم يوفَّق إلى الخير.
إن الذين اتقوا الله في جنات عظيمة, وعيون ماء جارية, أعطاهم الله جميع مُناهم من أصناف النعيم, فأخذوا ذلك راضين به, فَرِحة به نفوسهم, إنهم كانوا قبل ذلك النعيم محسنين في الدنيا بأعمالهم الصالحة.
وفي أموالهم حق واجب ومستحب للمحتاجين الذين يسألون الناس, والذين لا يسألونهم حياء.
وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)
وفي الأرض عبر ودلائل واضحة على قدرة خلقها لأهل اليقين بأن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له، والمصدِّقين لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21)
وفي خلق أنفسكم دلائل على قدرة الله تعالى, وعبر تدلكم على وحدانية خالقكم, وأنه لا إله لكم يستحق العبادة سواه, أغَفَلتم عنها, فلا تبصرون ذلك, فتعتبرون به؟
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)
وفي السماء رزقكم وما توعدون من الخير والشر والثواب والعقاب, وغير ذلك كله مكتوب مقدَّر.
هل أتاك -أيها الرسول- حديث ضيف إبراهيم الذين أكرمهم- وكانوا من الملائكة الكرام- حين دخلوا عليه في بيته, فحيَّوه قائلين له: سلامًا, فردَّ عليهم التحية قائلا سلام عليكم, أنتم قوم غرباء لا نعرفكم.
فعَدَلَ ومال خفية إلى أهله, فعمد إلى عجل سمين فذبحه, وشواه بالنار، ثم وضعه أمامهم, وتلَّطف في دعوتهم إلى الطعام قائلا ألا تأكلون؟
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)
فلما رآهم لا يأكلون أحسَّ في نفسه خوفًا منهم, قالوا له: لا تَخَفْ إنا رسل الله, وبشروه بأن زوجته "سَارَةَ" ستلد له ولدًا, سيكون من أهل العلم بالله وبدينه, وهو إسحاق عليه السلام.
قالت لها ملائكة الله: هكذا قال ربك كما أخبرناك, وهو القادر على ذلك, فلا عجب من قدرته. إنه سبحانه وتعالى هو الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها, العليم بمصالح عباده.
قال إبراهيم عليه السلام, لملائكة الله: ما شأنكم وفيم أُرسلتم؟ قالوا: إن الله أرسلنا إلى قوم قد أجرموا لكفرهم بالله; لنهلكهم بحجارة من طين متحجِّر, معلَّمة عند ربك لهؤلاء المتجاوزين الحدَّ في الفجور والعصيان.
وفي إرسالنا موسى إلى فرعون وملئه بالآيات والمعجزات الظاهرة آية للذين يخافون العذاب الأليم. فأعْرَضَ فرعون مغترًّا بقوته وجانبه, وقال عن موسى: إنه ساحر أو مجنون.
ففروا-أيها الناس- من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به وبرسوله, واتباع أمره والعمل بطاعته, إني لكم نذير بيِّن الإنذار. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر, فزع إلى الصلاة, وهذا فرار إلى الله.
كما كذبت قريش نبيَّها محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقالوا: هو شاعر أو ساحر أو مجنون, فعلت الأمم المكذبة رسلها من قبل قريش, فأحلَّ الله بهم نقمته.
أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)
أتواصى الأولون والآخرون بالتكذيب بالرسول حين قالوا ذلك جميعًا؟ بل هم قوم طغاة تشابهت قلوبهم وأعمالهم بالكفر والطغيان, فقال متأخروهم ذلك, كما قاله متقدموهم.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)
فأعرضْ -أيها الرسول- عن المشركين حتى يأتيك فيهم أمر الله, فما أنت بملوم من أحد, فقد بلَّغت ما أُرسلت به.
ومع إعراضك -أيها الرسول- عنهم, وعدم الالتفات إلى تخذيلهم, داوم على الدعوة إلى الله, وعلى وعظ من أُرسلتَ إليهم; فإن التذكير والموعظة ينتفع بهما أهل القلوب المؤمنة, وفيهما إقامة الحجة على المعرضين.
ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون, فأنا الرزاق المعطي. فهو سبحانه غير محتاج إلى الخلق, بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم, فهو خالقهم ورازقهم والغني عنهم.
فإن للذين ظلموا بتكذيبهم الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم نصيبًا من عذاب الله نازلا بهم مثل نصيب أصحابهم الذين مضَوْا من قبلهم, فلا يستعجلون بالعذاب, فهو آتيهم لا محالة.
أقسم الله بالطور, وهو الجبل الذي كلَّم الله سبحانه وتعالى موسى عليه, وبكتاب مكتوب, وهو القرآن في صحف منشورة، وبالبيت المعمور في السماء بالملائكة الكرام الذين يطوفون به دائمًا, وبالسقف المرفوع وهو السماء الدنيا, وبالبحر المسجور المملوء بالمياه.
إن عذاب ربك -أيها الرسول- بالكفار لَواقع، ليس له مِن مانع يمنعه حين وقوعه, يوم تتحرك السماء فيختلُّ نظامها وتضطرب أجزاؤها, وذلك عند نهاية الحياة الدنيا, وتزول الجبال عن أماكنها, وتسير كسير السحاب.
الدولة : عدد الرسائل : 51922تاريخ التسجيل : 08/12/2007المزاج : بطاقة عضوية :
موضوع: رد: تفسير القرآن الإثنين 12 أبريل 2010 - 21:10
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
أفسحر ما تشاهدونه من العذاب أم أنتم لا تنظرون؟ ذوقوا حرَّ هذه النار, فاصبروا على ألمها وشدتها, أو لا تصبروا على ذلك، فلن يُخَفَّف عنكم العذاب، ولن تخرجوا منها, سواء عليكم صبرتم أم لم تصبروا, إنما تُجزون ما كنتم تعملون في الدنيا.
كلوا طعامًا هنيئًا, واشربوا شرابًا سائغًا؛ جزاء بما عملتم من أعمال صالحة في الدنيا. وهم متكئون على سرر متقابلة, وزوَّجناهم بنساء بيض واسعات العيون حسانهنَّ.
والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم في الإيمان, وألحقنا بهم ذريتهم في منزلتهم في الجنة, وإن لم يبلغوا عمل آبائهم; لتَقَرَّ أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيُجْمَع بينهم على أحسن الأحوال, وما نقصناهم شيئًا من ثواب أعمالهم. كل إنسان مرهون بعمله, لا يحمل ذنب غيره من الناس.
وزدناهم على ما ذُكر من النعيم فواكه ولحومًا مما يستطاب ويُشتهى، ومن هذا النعيم أنهم يتعاطَوْن في الجنة كأسًا من الخمر, يناول أحدهم صاحبه؛ ليتم بذلك سرورهم، وهذا الشراب مخالف لخمر الدنيا، فلا يزول به عقل صاحبه, ولا يحصل بسببه لغو، ولا كلام فيه إثم أو معصية.
وأقبل أهل الجنة, يسأل بعضهم بعضًا عن عظيم ما هم فيه وسببه, قالوا: إنا كنا قبل في الدنيا- ونحن بين أهلينا- خائفين ربنا، مشفقين من عذابه وعقابه يوم القيامة. فمنَّ الله علينا بالهداية والتوفيق، ووقانا عذاب سموم جهنم, وهو نارها وحرارتها. إنا كنا من قبلُ نضرع إليه وحده لا نشرك معه غيره أن يقينا عذاب السَّموم ويوصلنا إلى النعيم، فاستجاب لنا وأعطانا سؤالنا, إنه هو البَرُّ الرحيم. فمن بِره ورحمته إيانا أنالنا رضاه والجنة, ووقانا مِن سخطه والنار.
فذكِّر -أيها الرسول- مَن أُرسلت إليهم بالقرآن، فما أنت بإنعام الله عليك بالنبوة ورجاحة العقل بكاهن يخبر بالغيب دون علم، ولا مجنون لا يعقل ما يقول كما يَدَّعون.