وكثيرًا أهلكنا - أيها الرسول - من الأمم السابقة قبل قومك, ما ترى منهم أحدًا وما تسمع لهم صوتًا, فكذلك الكفار من قومك, نهلكهم كما أهلكنا السابقين من قبلهم. وفي هذا تهديد ووعيد بإهلاك المكذبين المعاندين.
حين رأى في الليل نارًا موقدة فقال لأهله: انتظروا لقد أبصرت نارًا, لعلي أجيئكم منها بشعلة تستدفئون بها, وتوقدون بها نارًا أخرى, أو أجد عندها هاديًا يدلنا على الطريق.
إن الساعة التي يُبعث فيها الناس آتية لا بد من وقوعها, أكاد أخفيها من نفسي, فكيف يعلمها أحد من المخلوقين; لكي تُجزى كل نفس بما عملت في الدنيا من خير أو شر.
قال الله لموسى: خذ الحية, ولا تَخَفْ منها, سوف نعيدها عصًا كما كانت في حالتها الأولى. واضمم يدك إلى جنبك تحت العَضُد تخرج بيضاء كالثلج من غير برص; لتكون لك علامة أخرى.
لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
فعلنا ذلك; لكي نريك - يا موسى - من أدلتنا الكبرى ما يدلُّ على قدرتنا, وعظيم سلطاننا, وصحة رسالتك.
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
اذهب - يا موسى - إلى فرعون; إنه قد تجاوز قدره وتمرَّد على ربه, فادعه إلى توحيد الله وعبادته.
قال موسى: رب وسِّع لي صدري, وسَهِّل لي أمري, وأطلق لساني بفصيح المنطق; ليفهموا كلامي. واجعل لي معينا من أهلي, هارون أخي. قَوِّني به وشدَّ به ظهري, وأشركه معي في النبوة وتبليغ الرسالة; كي ننزهك بالتسبيح كثيرًا, ونذكرك كثيرا فنحمدك. إنك كنت بنا بصيرًا, لا يخفى عليك شيء من أفعالنا.
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
قال الله: قد أعطيتك كل ما سألت يا موسى.
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)
ولقد أنعمنا عليك - يا موسى - قبل هذه النعمة نعمة أخرى, حين كنت رضيعًا, فأنجيناك مِن بطش فرعون.
وذلك حين ألهمْنا أمَّك: أن ضعي ابنك موسى بعد ولادته في التابوت, ثم اطرحيه في النيل, فسوف يلقيه النيل على الساحل, فيأخذه فرعون عدوي وعدوه. وألقيت عليك محبة مني فصرت بذلك محبوبًا بين العباد, ولِتربى على عيني وفي حفظي. وفي الآية إثبات صفة العين لله - سبحانه وتعالى - كما يليق بجلاله وكماله.
ومننَّا عليك حين تمشي أختك تتبعك ثم تقول لمن أخذوك: هل أدلكم على من يكفُله, ويرضعه لكم؟ فرددناك إلى أمِّك بعد ما صرتَ في أيدي فرعون؛ كي تطيب نفسها بسلامتك من الغرق والقتل, ولا تحزن على فَقْدك, وقتلت الرجل القبطي خطأ فنجيناك من غَمِّ فِعْلك وخوف القتل, وابتليناك ابتلاء, فخرجت خائفًا إلى أهل "مدين", فمكثت سنين فيهم, ثم جئت من "مدين" في الموعد الذي قدَّرناه لإرسالك مجيئًا موافقًا لقدر الله وإرادته, والأمر كله لله تبارك وتعالى.
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
وأنعمتُ عليك - يا موسى - هذه النعم اجتباء مني لك, واختيارًا لرسالتي, والبلاغ عني, والقيام بأمري ونهيي.
اذهب - يا موسى - أنت وأخوك هارون بآياتي الدالة على ألوهيتي وكمال قدرتي وصدق رسالتك, ولا تَضْعُفا عن مداومة ذكري. اذهبا معًا إلى فرعون; إنه قد جاوز الحد في الكفر والظلم, فقولا له قولا لطيفًا; لعله يتذكر أو يخاف ربه.
قال الله لموسى وهارون: لا تخافا من فرعون; فإنني معكما أسمع كلامكما وأرى أفعالكما, فاذهبا إليه وقولا له: إننا رسولان إليك من ربك أن أطلق بني إسرائيل, ولا تكلِّفهم ما لا يطيقون من الأعمال, قد أتيناك بدلالة معجزة من ربك تدل على صدقنا في دعوتنا, والسلامة من عذاب الله تعالى لمن اتبع هداه. إن ربك قد أوحى إلينا أن عذابه على مَن كذَّب وأعرض عن دعوته وشريعته.
قال موسى لفرعون: عِلْمُ تلك القرون فيما فَعَلَت من ذلك عند ربي في اللوح المحفوظ, ولا عِلْمَ لي به, لا يضل ربي في أفعاله وأحكامه, ولا ينسى شيئًا ممَّا علمه منها.
كلوا - أيها الناس - من طيبات ما أنبتنا لكم, وارعوا حيواناتكم وبهائمكم. إن في كل ما ذُكر لَعلامات على قدرة الله, ودعوة لوحدانيته وإفراده بالعبادة, لذوي العقول السليمة.
فتجاذب السحرة أمرهم بينهم وتحادثوا سرًا, قالوا: إن موسى وهارون ساحران يريدان أن يخرجاكم من بلادكم بسحرهما, ويذهبا بطريقة السحر العظيمة التي أنتم عليها, فأحكموا كيدكم, واعزموا عليه من غير اختلاف بينكم, ثم ائتوا صفًا واحدًا, وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة; لتَبْهَروا الأبصار, وتغلبوا سحر موسى وأخيه, وقد ظفر بحاجته اليوم مَن علا على صاحبه, فغلبه وقهره.
فألقى موسى عصاه, فبلعت ما صنعوا, فظهر الحق وقامت الحجة عليهم. فألقى السحرة أنفسهم على الأرض ساجدين وقالوا: آمنا برب هارون وموسى, لو كان هذا سحرًا ما غُلِبْنا.
قال فرعون للسحرة: أصدَّقتم بموسى, واتبعتموه, وأقررتم له قبل أن آذن لكم بذلك؟ إن موسى لَعظيمكم الذي عَلَّمكم السحر; فلذلك تابعتموه, فلأقطعنَّ أيديكم وأرجلكم مخالفًا بينها, يدًا من جهة ورِجْلا من الجهة الأخرى, ولأصلبنَّكم - بربط أجسادكم - على جذوع النخل, ولتعلمنَّ أيها السحرة أينا: أنا أو رب موسى أشد عذابًا من الآخر, وأدوم له؟
قال السحرة لفرعون: لن نفضلك, فنطيعك, ونتبع دينك, على ما جاءنا به موسى من البينات الدالة على صدقه ووجوب متابعته وطاعة ربه, ولن نُفَضِّل ربوبيتك المزعومة على ربوبية اللهِ الذي خلقنا, فافعل ما أنت فاعل بنا, إنما سلطانك في هذه الحياة الدنيا, وما تفعله بنا, ما هو إلا عذاب منتهٍ بانتهائها.
إنَّا آمنا بربنا وصدَّقْنا رسوله وعملنا بما جاء به; ليعفو ربُّنا عن ذنوبنا, وما أكرهتنا عليه مِن عمل السحر في معارضة موسى. والله خير لنا منك - يا فرعون - جزاء لمن أطاعه, وأبقى عذابًا لمن عصاه وخالف أمره.
ومن يأت ربه مؤمنًا به قد عمل الأعمال الصالحة فله المنازل العالية في جنات الإقامة الدائمة, تجري من تحت أشجارها الأنهار ماكثين فيها أبدًا, وذلك النعيم المقيم ثواب من الله لمن طهَّر نفسه من الدنس والخبث والشرك, وعبد الله وحده فأطاعه واجتنب معاصيه, ولقي ربه لا يشرك بعبادته أحدًا من خلقه.
ولقد أوحينا إلى موسى: أن اخرُج ليلا بعبادي من بني إسرائيل من "مصر", فاتِّخِذْ لهم في البحر طريقًا يابسًا, لا تخاف من فرعون وجنوده أن يلحقوكم فيدركوكم, ولا تخشى في البحر غرقًا.
يا بني إسرائيل اذكروا حين أنجيناكم مِن عدوكم فرعون, وجَعَلْنا موعدكم بجانب جبل الطور الأيمن لإنزال التوراة عليكم, ونزلنا عليكم في التيه ما تأكلونه, مما يشبه الصَّمغ طعمه كالعسل، والطير الذي يشبه السُّمَانَى.
فرجع موسى إلى قومه غضبان عليهم حزينًا, وقال لهم: يا قوم ألم يَعِدْكم ربكم وعدًا حسنًا بإنزال التوراة؟ أفطال عليكم العهد واستبطأتم الوعد, أم أردتم أن تفعلوا فعلا يحل عليكم بسببه غضب من ربكم, فأخلفتم موعدي وعبدتم العجل, وتركتم الالتزام بأوامري؟
قالوا: يا موسى ما أخلفنا موعدك باختيارنا, ولكنَّا حُمِّلنا أثقالا مِن حليِّ قوم فرعون, فألقيناها في حفرة فيها نار بأمر السامري, فكذلك ألقى السامري ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل عليه السلام.
ولقد قال هارون لبني إسرائيل من قبل رجوع موسى إليهم: يا قوم إنما اختُبرتم بهذا العجل؛ ليظهر المؤمن منكم من الكافر, وإن ربكم الرحمن لا غيره فاتبعوني فيما أدعوكم إليه من عبادة الله, وأطيعوا أمري في اتباع شرعه.
ثم أخذ موسى بلحية هارون ورأسه يجرُّه إليه, فقال له هارون: يا ابن أمي لا تمسك بلحيتي ولا بشعر رأسي, إني خفتُ - إن تركتهم ولحقت بك - أن تقول: فرَّقت بين بني إسرائيل, ولم تحفظ وصيتي بحسن رعايتهم.
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)
قال موسى للسامري: فما شأنك يا سامري؟ وما الذي دعاك إلى ما فعلته؟
قال السامري: رأيت ما لم يروه - وهو جبريل عليه السلام - على فرس, وقت خروجهم من البحر وغرق فرعون وجنوده, فأخذتُ بكفي ترابا من أثر حافر فرس جبريل, فألقيته على الحليِّ الذي صنعت منه العجل, فكان عجلا جسدًا له خوار؛ بلاء وفتنة, وكذلك زيَّنت لي نفسي الأمَّارة بالسوء هذا الصنيع.
قال موسى للسامري: فاذهب فإن لك في حياتك أن تعيش منبوذًا تقول لكل أحد: لا أَمَسُّ ولا أُمَسُّ, وإن لك موعدا لعذابك وعقابك, لن يُخْلفك الله إياه, وسوف تلقاه, وانظر إلى معبودك الذي أقمت على عبادته لنُحرقنَّه بالنار, ثم لنُذرينَّه في اليمِّ تذرية.
في ذلك اليوم يتبع الناس صوت الداعي إلى موقف القيامة, لا محيد عن دعوة الداعي; لأنها حق وصدق لجميع الخلق, وسكنت الأصوات خضوعًا للرحمن, فلا تسمع منها إلا صوتًا خفيًا.
وخضعت وجوه الخلائق, وذلَّت لخالقها, الذي له جميع معاني الحياة الكاملة كما يليق بجلاله الذي لا يموت, القائم على تدبير كلِّ شيء، المستغني عمَّن سواه. وقد خسر يوم القيامة مَن أشرك مع الله أحدًا من خلقه.
وكما رغَّبنا أهل الإيمان في صالحات الأعمال, وحذَّرنا أهل الكفر من المقام على معاصيهم وكفرهم بآياتنا, أنزلنا هذا القرآن باللسان العربي; ليفهموه, وفصَّلنا فيه أنواعًا من الوعيد; رجاء أن يتقوا ربهم, أو يُحدِث لهم هذا القرآن تذكرة, فيتعظوا, ويعتبروا.
فتنزَّه الله - سبحانه - وارتفع, وتقدَّس عن كل نقص, الملك الذي قهر سلطانه كل ملك وجبار, المتصرف بكل شيء, الذي هو حق, ووعده حق, ووعيده حق, وكل شيء منه حق. ولا تعجل - أيها الرسول - بمسابقة جبريل في تَلَقِّي القرآن قبل أن يَفْرَغ منه, وقل: ربِّ زدني علمًا إلى ما علمتني.
ولقد وصينا آدم مِن قَبلِ أن يأكل من الشجرة, ألا يأكل منها, وقلنا له: إن إبليس عدو لك ولزوجك, فلا يخرجنكما من الجنة, فتشقى أنت وزوجك في الدنيا, فوسوس إليه الشيطان فأطاعه, ونسي آدم الوصية, ولم نجد له قوة في العزم يحفظ بها ما أُمر به.
فأكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عنها, فانكشفت لهما عوراتهما, وكانت مستورةً عن أعينهما, فأخذا ينزعان من ورق أشجار الجنة ويلصقانه عليهما; ليسترا ما انكشف من عوراتهما, وخالف آدم أمر ربه, فغوى بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الاقتراب منها.
قال الله تعالى لآدم وحواء: اهبطا من الجنة إلى الأرض جميعًا مع إبليس, فأنتما وهو أعداء, فإن يأتكم مني هدى وبيان فمن اتبع هداي وبياني وعمل بهما فإنه يرشد في الدنيا, ويهتدي, ولا يشقى في الآخرة بعقاب الله.
ومن تولَّى عن ذكري الذي أذكِّره به فإن له في الحياة الأولى معيشة ضيِّقة شاقة -وإن ظهر أنه من أهل الفضل واليسار-، ويُضيَّق قبره عليه ويعذَّب فيه، ونحشره يوم القيامة أعمى عن الرؤية وعن الحجة.
أفلم يدل قومك - أيها الرسول - على طريق الرشاد كثرة مَن أهلكنا من الأمم المكذبة قبلهم وهم يمشون في ديارهم, ويرون آثار هلاكهم؟ إن في كثرة تلك الأمم وآثار عذابهم لَعبرًا وعظاتٍ لأهل العقول الواعية.
فاصبر - أيها الرسول - على ما يقوله المكذبون بك من أوصاف وأباطيل, وسبِّح بحمد ربك في صلاة الفجر قبل طلوع الشمس, وصلاة العصر قبل غروبها, وصلاة العشاء في ساعات الليل, وصلاة الظهر والمغرب أطراف النهار; كي تثاب على هذه الأعمال بما تَرْضى به.
ولا تنظر إلى ما مَتَّعْنا به هؤلاء المشركين وأمثالهم من أنواع المتع, فإنها زينة زائلة في هذه الحياة الدنيا, متعناهم بها; لنبتليهم بها, ورزق ربك وثوابه خير لك مما متعناهم به وأدوم; حيث لا انقطاع له ولا نفاد.
ولو أنَّا أهلكنا هؤلاء المكذبين بعذاب من قبل أن نرسل إليهم رسولا وننزل عليهم كتابًا لقالوا: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا من عندك, فنصدقه, ونتبع آياتك وشرعك, مِن قبل أن نَذلَّ ونَخزى بعذابك.
قل - أيها الرسول - لهؤلاء المشركين بالله: كل منا ومنكم منتظر دوائر الزمان, ولمن يكون النصر والفلاح, فانتظروا, فستعلمون: مَن أهل الطريق المستقيم, ومَن المهتدي للحق منا ومنكم؟
قلوبهم غافلة عن القرآن الكريم, مشغولة بأباطيل الدنيا وشهواتها, لا يعقلون ما فيه. بل إن الظالمين من قريش اجتمعوا على أمر خَفِيٍّ: وهو إشاعة ما يصدُّون به الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من أنه بشر مثلهم, لا يختلف عنهم في شيء, وأن ما جاء به من القرآن سحر, فكيف تجيئون إليه وتتبعونه, وأنتم تبصرون أنه بشر مثلكم؟
رد النبي صلى الله عليه وسلم الأمرَ إلى ربه سبحانه وتعالى فقال: ربي يعلم القول في السماء والأرض, ويعلم ما أسررتموه من حديثكم, وهو السميع لأقوالكم, العليم بأحوالكم. وفي هذا تهديد لهم ووعيد.
بل جحد الكفار القرآن فمِن قائل: إنه أخلاط أحلام لا حقيقة لها, ومن قائل: إنه اختلاق وكذب وليس وحيًا, ومن قائل: إن محمدًا شاعر, وهذا الذي جاء به شعر, وإن أراد منا أن نصدِّقه فليجئنا بمعجزة محسوسة كناقة صالح, وآيات موسى وعيسى, وما جاء به الرسل من قبله.
ما آمنت قبل كفار "مكة" من قرية طلب أهلها المعجزات مِن رسولهم وتحققت, بل كذَّبوا, فأهلكناهم, أفيؤمن كفار"مكة" إذا تحققت المعجزات التي طلبوها؟ كلا إنهم لا يؤمنون.
وما أرسلنا قبلك - أيها الرسول - إلا رجالا من البشر نوحي إليهم, ولم نرسل ملائكة, فاسألوا - يا كفار "مكة" - أهل العلم بالكتب المنزلة السابقة, إن كنتم تجهلون ذلك.
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)
وما جعلنا أولئك المرسلين قبلك خارجين عن طباع البشر لا يحتاجون إلى طعام وشراب, وما كانوا خالدين لا يموتون.
فنودوا في هذه الحال: لا تهربوا وارجعوا إلى لذاتكم وتنعُّمكم في دنياكم الملهية ومساكنكم المشيَّدة, لعلكم تُسألون من دنياكم شيئًا, وذلك على وجه السخرية والاستهزاء بهم.
فما زالت تلك المقالة - وهي الدعاء على أنفسهم بالهلاك, والاعتراف بالظلم - دَعْوَتَهم يرددونها حتى جعلناهم كالزرع المحصود, خامدين لا حياة فيهم. فاحذروا - أيها المخاطبون - أن تستمروا على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم, فيحلُّ بكم ما حَلَّ بالأمم قبلكم.
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما عبثًا وباطلا بل لإقامة الحجة عليكم - أيها الناس - ولتعتبروا بذلك كله, فتعلموا أن الذي خلق ذلك لا يشبهه شيء, ولا تصلح العبادة إلا له.
لو كان في السموات والأرض آلهة غير الله سبحانه وتعالى تدبر شؤونهما, لاختلَّ نظامهما, فتنزَّه الله رب العرش, وتقدَّس عَمَّا يصفه الجاحدون الكافرون, من الكذب والافتراء وكل نقص.
لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
إن من دلائل تفرُّده سبحانه بالخلق والعبادة أنه لا يُسأل عن قضائه في خلقه, وجميع خلقه يُسألون عن أفعالهم.
هل اتخذ هؤلاء المشركون مِن غير الله آلهة تنفع وتضر وتحيي وتميت؟ قل - أيها الرسول - لهم: هاتوا ما لديكم من البرهان على ما اتخذتموه آلهة, فليس في القرآن الذي جئتُ به ولا في الكتب السابقة دليل على ما ذهبتم إليه, وما أشركوا إلا جهلا وتقليدًا, فهم معرضون عن الحق منكرون له.
فنودوا في هذه الحال: لا تهربوا وارجعوا إلى لذاتكم وتنعُّمكم في دنياكم الملهية ومساكنكم المشيَّدة, لعلكم تُسألون من دنياكم شيئًا, وذلك على وجه السخرية والاستهزاء بهم.
فما زالت تلك المقالة - وهي الدعاء على أنفسهم بالهلاك, والاعتراف بالظلم - دَعْوَتَهم يرددونها حتى جعلناهم كالزرع المحصود, خامدين لا حياة فيهم. فاحذروا - أيها المخاطبون - أن تستمروا على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم, فيحلُّ بكم ما حَلَّ بالأمم قبلكم.
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما عبثًا وباطلا بل لإقامة الحجة عليكم - أيها الناس - ولتعتبروا بذلك كله, فتعلموا أن الذي خلق ذلك لا يشبهه شيء, ولا تصلح العبادة إلا له.
لو كان في السموات والأرض آلهة غير الله سبحانه وتعالى تدبر شؤونهما, لاختلَّ نظامهما, فتنزَّه الله رب العرش, وتقدَّس عَمَّا يصفه الجاحدون الكافرون, من الكذب والافتراء وكل نقص.
لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
إن من دلائل تفرُّده سبحانه بالخلق والعبادة أنه لا يُسأل عن قضائه في خلقه, وجميع خلقه يُسألون عن أفعالهم.
هل اتخذ هؤلاء المشركون مِن غير الله آلهة تنفع وتضر وتحيي وتميت؟ قل - أيها الرسول - لهم: هاتوا ما لديكم من البرهان على ما اتخذتموه آلهة, فليس في القرآن الذي جئتُ به ولا في الكتب السابقة دليل على ما ذهبتم إليه, وما أشركوا إلا جهلا وتقليدًا, فهم معرضون عن الحق منكرون له.
وقال المشركون: اتخذ الرحمن ولدًا بزعمهم أن الملائكة بنات الله. تنزَّه الله عن ذلك; فالملائكة عباد الله مقربون مخصصون بالفضائل, وهم في حسن طاعتهم لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم, ولا يعملون عملا حتى يأذن لهم.
وما من أعمال الملائكة عمل سابق أو لاحق إلا يعلمه الله سبحانه وتعالى, ويحصيه عليهم, ولا يتقدمون بالشفاعة إلا لمن ارتضى الله شفاعتهم له, وهم من خوف الله حذرون من مخالفة أمره ونهيه.
أولم يعلم هؤلاء الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين لا فاصل بينهما, فلا مطر من السماء ولا نبات من الأرض, ففصلناهما بقدرتنا, وأنزلنا المطر من السماء, وأخرجنا النبات من الأرض, وجعلنا من الماء كل شيء حي, أفلا يؤمن هؤلاء الجاحدون فيصدقوا بما يشاهدونه, ويخصُّوا الله بالعبادة؟
وجعلنا السماء سقفًا للأرض لا يرفعها عماد, وهي محفوظة لا تسقط, ولا تخترقها الشياطين, والكفار عن الاعتبار بآيات السماء (الشمس والقمر والنجوم), غافلون لاهون عن التفكير فيها.
والله تعالى هو الذي خلق الليل; ليسكن الناس فيه, والنهار; ليطلبوا فيه المعايش, وخلق الشمس آية للنهار, والقمر آية للَّيل, ولكل منهما مدار يجري فيه وَيَسْبَح لا يحيد عنه.
وما جعلنا لبشر من قبلك - أيها الرسول - دوام البقاء في الدنيا, أفإن مت فهم يُؤمِّلون الخلود بعدك؟ لا يكون هذا. وفي هذه الآية دليل على أن الخضر عليه السلام قد مات; لأنه بشر.
كل نفس ذائقة الموت لا محالة مهما عُمِّرت في الدنيا. وما وجودها في الحياة إلا ابتلاء بالتكاليف أمرًا ونهيًا, وبتقلب الأحوال خيرًا وشرًا, ثم المآل والمرجع بعد ذلك إلى الله - وحده - للحساب والجزاء
وإذا رآك الكفار - أيها الرسول - أشاروا إليك ساخرين منك بقول بعضهم لبعض: أهذا الرجل الذي يسبُّ آلهتكم؟ وجحدوا بالرحمن ونعمه, وبما أنزله من القرآن والهدى.
خُلق الإنسان عجولا يبادر الأشياء ويستعجل وقوعها. وقد استعجلت قريش العذاب واستبطأته, فأنذرهم الله بأنه سيريهم ما يستعجلونه من العذاب, فلا يسألوا الله تعجيله وسرعته.
لو يعلم هؤلاء الكفار ما يلاقونه عندما لا يستطيعون أن يدفعوا عن وجوههم وظهورهم النار, ولا يجدون لهم ناصرًا ينصرهم, لما أقاموا على كفرهم, ولما استعجلوا عذابهم.
قل - أيها الرسول - لهؤلاء المستعجلين بالعذاب: لا أحد يحفظكم ويحرسكم في ليلكم أو نهاركم, في نومكم أو يقظتكم, مِن بأس الرحمن إذا نزل بكم. بل هم عن القرآن ومواعظ ربهم لاهون غافلون.
لقد اغترَّ الكفار وآباؤهم بالإمهال لِمَا رأوه من الأموال والبنين وطول الأعمار, فأقاموا على كفرهم لا يَبْرحونه, وظنوا أنهم لا يُعذَّبون وقد غَفَلوا عن سُنَّة ماضية, فالله ينقص الأرض من جوانبها بما ينزله بالمشركين مِن بأس في كل ناحية ومِن هزيمة, أيكون بوسع كفار "مكة" الخروج عن قدرة الله, أو الامتناع من الموت؟
قل - أيها الرسول - لمن أُرسلتَ إليهم: ما أُخوِّفكم من العذاب إلا بوحي من الله, وهو القرآن, ولكن الكفار لا يسمعون ما يُلقى إليهم سماع تدبر إذا أُنذِورا, فلا ينتفعون به.
ويضع الله تعالى الميزان العادل للحساب في يوم القيامة, ولا يظلم هؤلاء ولا غيرهم شيئًا, وإن كان هذا العمل قدْرَ ذرة مِن خير أو شر اعتبرت في حساب صاحبها. وكفى بالله محصيًا أعمال عباده, ومجازيًا لهم عليها.
ولقد آتينا موسى وهارون حجة ونصرًا على عدوهما, وكتابًا - وهو التوراة - فَرَقْنا به بين الحق والباطل, ونورًا يهتدي به المتقون الذين يخافون عقاب ربهم, وهم من الساعة التي تقوم فيها القيامة خائفون وجلون.
وهذا القرآن الذي أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ذِكْرٌ لمن تذكَّر به, وعمل بأوامره واجتنب نواهيه, كثير الخير, عظيم النفع, أفتنكرونه وهو في غاية الجلاء والظهور؟
وتمَّ لإبراهيم ما أراد من إظهار سفههم على مرأى منهم. فقال محتجًا عليهم معرِّضًا بغباوتهم: بل الذي كسَّرها هذا الصنم الكبير, فاسألوا آلهتكم المزعومة عن ذلك, إن كانت تتكلم أو تُحير جوابًا.
قال إبراهيم محقِّرًا لشأن الأصنام: كيف تعبدون أصنامًا لا تنفع إذا عُبدت, ولا تضرُّ إذا تُركت؟ قبحًا لكم ولآلهتكم التي تعبدونها من دون الله تعالى, أفلا تعقلون فتدركون سوء ما أنتم عليه؟
لما بطلت حجتهم وظهر الحق عدلوا إلى استعمال سلطانهم, وقالوا: حَرِّقوا إبراهيم بالنار; غضبًا لآلهتكم إن كنتم ناصرين لها. فأشْعَلوا نارًا عظيمة وألقوه فيها. فانتصر الله لرسوله وقال للنار: كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم, فلم يَنَلْه فيها أذى, ولم يصبه مكروه.
وجعلنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب قدوة للناس يدعونهم إلى عبادته وطاعته بإذنه تعالى, وأوحينا إليهم فِعْلَ الخيرات من العمل بشرائع الأنبياء, وإقام الصلاة على وجهها, وإيتاء الزكاة, فامتثلوا لذلك, وكانوا منقادين مطيعين لله وحده دون سواه.
وآتينا لوطًا النبوة وفصل القضاء بين الخصوم وعلمًا بأمر الله ودينه, ونجيناه من قريته "سدوم" التي كان يعمل أهلها الخبائث. إنهم كانوا بسبب الخبائث والمنكرات التي يأتونها أهل سوء وقُبْح, خارجين عن طاعة الله.
واذكر - أيها الرسول - نبي الله داود وابنه سليمان, إذ يحكمان في قضية عرَضَها خصمان, عَدَت غنم أحدهما على زرع الآخر, وانتشرت فيه ليلا فأتلفت الزرع, فحكم داود بأن تكون الغنم لصاحب الزرع ملْكًا بما أتلفته, فقيمتهما سواء, وكنَّا لحكمهم شاهدين لم يَغِبْ عنا.
فَفَهَّمنا سليمان مراعاة مصلحة الطرفين مع العدل, فحكم على صاحب الغنم بإصلاح الزرع التالف في فترة يستفيد فيها صاحب الزرع بمنافع الغنم من لبن وصوف ونحوهما, ثم تعود الغنم إلى صاحبها والزرع إلى صاحبه; لمساواة قيمة ما تلف من الزرع لمنفعة الغنم, وكلا من داود وسليمان أعطيناه حكمًا وعلمًا, ومننَّا على داود بتطويع الجبال تسبِّح معه إذا سبَّح, وكذلك الطير تسبِّح, وكنا فاعلين ذلك.
واختصَّ الله داود عليه السلام بأن علَّمه صناعة الدروع يعملها حِلَقًا متشابكة, تسهِّل حركة الجسم; لتحمي المحاربين مِن وَقْع السلاح فيهم, فهل أنتم شاكرون نعمة الله عليكم حيث أجراها على يد عبده داود؟
وسخَّرنا لسليمان الريح شديدة الهبوب تحمله ومَن معه, تجري بأمره إلى أرض "بيت المقدس" بـ "الشام" التي باركنا فيها بالخيرات الكثيرة، وقد أحاط علمنا بجميع الأشياء.
وسخَّرنا لسليمان من الشياطين شياطين يستخدمهم فيما يَعْجِز عنه غيرهم, فكانوا يغوصون في البحر يستخرجون له اللآلئ والجواهر, وكانوا يعملون كذلك في صناعة ما يريده منهم, لا يقدرون على الامتناع مما يريده منهم, حفظهم الله له بقوته وعزه سبحانه وتعالى.
فاستجبنا له دعاءه, ورفعنا عنه البلاء, ورددنا عليه ما فقده من أهل وولد ومال مضاعفًا, فَعَلْنا به ذلك رحمة منَّا, وليكون قدوة لكل صابر على البلاء, راجٍ رحمة ربه, عابد له.
واذكر قصة صاحب الحوت, وهو يونس بن مَتَّى عليه السلام, أرسله الله إلى قومه فدعاهم فلم يؤمنوا, فتوعَّدهم بالعذاب فلم ينيبوا, ولم يصبر عليهم كما أمره الله, وخرج مِن بينهم غاضبًا عليهم, ضائقًا صدره بعصيانهم, وظن أن الله لن يضيِّق عليه ويؤاخذه بهذه المخالفة, فابتلاه الله بشدة الضيق والحبس, والتقمه الحوت في البحر, فنادى ربه في ظلمات الليل والبحر وبطن الحوت تائبًا معترفًا بظلمه; لتركه الصبر على قومه, قائلا: لا إله إلا أنت سبحانك, إني كنت من الظالمين.
واذكر - أيها الرسول - قصة عبد الله زكريا حين دعا ربه أن يرزقه الذرية لما كَبِرت سنُّه قائلا رب لا تتركني وحيدًا لا عقب لي, هب لي وارثًا يقوم بأمر الدين في الناس من بعدي, وأنت خير الباقين وخير مَن خلفني بخير.
فاستجبنا له دعاءه ووهبنا له على الكبر ابنه يحيى, وجعلنا زوجته صالحة في أخلاقها وصالحة للحمل والولادة بعد أن كانت عاقرًا, إنهم كانوا يبادرون إلى كل خير, ويدعوننا راغبين فيما عندنا, خائفين من عقوبتنا, وكانوا لنا خاضعين متواضعين.
واذكر - أيها الرسول - قصة مريم ابنة عمران التي حفظت فرجها من الحرام, ولم تأتِ فاحشة في حياتها, فأرسل الله إليها جبريل عليه السلام, فنفخ في جيب قميصها, فوصلت النفخة إلى رحمها, فخلق الله بذلك النفخ المسيح عيسى عليه السلام, فحملت به من غير زوج, فكانت هي وابنها بذلك علامة على قدرة الله, وعبرة للخلق إلى قيام الساعة.
هؤلاء الأنبياء جميعًا دينهم واحد, الإسلام, وهو الاستسلام لله بالطاعة وإفراده بالعبادة, والله سبحانه وتعالى رب الخلق فاعبدوه - أيها الناس - وحده لا شريك له.
فمن التزم الإيمان بالله ورسله, وعمل ما يستطيع من صالح الأعمال طاعةً لله وعبادة له فلا يضيع الله عمله ولا يبطله، بل يضاعفه كله أضعافًا كثيرة, وسيجد ما عمله في كتابه يوم يُبْعث بعد موته.
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95)
وممتنع على أهل القرى التي أهلكناها بسبب كفرهم وظلمهم, رجوعهم إلى الدنيا قبل يوم القيامة; ليستدركوا ما فرطوا فيه.
فإذا فُتِح سد يأجوج ومأجوج, وانطلقوا من مرتفعات الأرض وانتشروا في جنباتها مسرعين, دنا يوم القيامة وبدَتْ أهواله فإذا أبصار الكفار مِن شدة الفزع مفتوحة لا تكاد تَطْرِف, يدعون على أنفسهم بالويل في حسرة: يا ويلنا قد كنا لاهين غافلين عن هذا اليوم وعن الإعداد له, وكنا بذلك ظالمين.
لو كان هؤلاء الذين عبدتموهم من دون الله تعالى آلهة تستحق العبادة ما دخلوا نار جهنم معكم أيها المشركون, إنَّ كلا من العابدين والمعبودين خالدون في نار جهنم.
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ (100)
لهؤلاء المعذبين في النار آلام ينبئ عنها زفيرهم الذي تتردد فيه أنفاسهم, وهم في النار لا يسمعون; من هول عذابهم.
لا يخيفهم الهول العظيم يوم القيامة, بل تبشرهم الملائكة: هذا يومكم الذي وُعِدتُم فيه الكرامة من الله وجزيل الثواب. يوم نطوي السماء كما تُطْوى الصحيفة على ما كُتب فيها, ونبعث فيه الخلق على هيئة خَلْقنا لهم أول مرة كما ولدتهم أمهاتهم, ذلك وعد الله الذي لا يتخلَّف, وَعَدْنا بذلك وعدًا حقًا علينا, إنا كنا فاعلين دائمًا ما نَعِدُ به.
ولقد كتبنا في الكتب المنزلة من بعد ما كُتِب في اللوح المحفوظ: أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون الذين قاموا بما أُمروا به, واجتنبوا ما نُهوا عنه, وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن أعرض هؤلاء عن الإسلام فقل لهم: أبلغكم جميعًا ما أوحاه الله تعالى إليَّ, فأنا وأنتم مستوون في العلم لمَّا أنذرتكم وحذرتكم, ولستُ أعلم - بعد ذلك - متى يحل بكم ما وُعِدْتُم به من العذاب؟
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ربِّ افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالقضاء الحق. ونسأل ربنا الرحمن, ونستعين به على ما تَصِفونه - أيها الكفار - من الشرك والتكذيب والافتراء عليه، وما تتوعدونا به من الظهور والغلبة .
يا أيها الناس احذروا عقاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه, إن ما يحدث عند قيام الساعة من أهوال وحركة شديدة للأرض, تتصدع منها كل جوانبها, شيء عظيم, لا يُقْدر قدره ولا يُبْلغ كنهه، ولا يعلم كيفيَّته إلا رب العالمين.
يوم ترون قيام الساعة تنسى الوالدةُ رضيعَها الذي ألقمته ثديها؛ لِمَا نزل بها من الكرب, وتُسْقط الحامل حملها من الرعب, وتغيب عقول للناس, فهم كالسكارى من شدة الهول والفزع, وليسوا بسكارى من الخمر, ولكن شدة العذاب أفقدتهم عقولهم وإدراكهم.
يا أيها الناس إن كنتم في شك من أن الله يُحيي الموتى فإنَّا خلقنا أباكم آدم من تراب, ثم تناسلت ذريته من نطفة, هي المنيُّ يقذفه الرجل في رحم المرأة, فيتحول بقدرة الله إلى علقة, وهي الدم الأحمر الغليظ, ثم إلى مضغة, وهي قطعة لحم صغيرة قَدْر ما يُمْضَغ, فتكون تارة مخلَّقة, أي تامة الخلق تنتهي إلى خروح الجنين حيًا, وغير تامة الخلق تارة أخرى, فتسقط لغير تمام؛ لنبيِّن لكم تمام قدرتنا بتصريف أطوار الخلق, ونبقي في الأرحام ما نشاء, وهو المخلَّق إلى وقت ولادته, وتكتمل الأطوار بولادة الأجنَّة أطفالا صغارًا تكبَرُ حتى تبلغ الأشد, وهو وقت الشباب والقوة واكتمال العقل, وبعض الأطفال قد يموت قبل ذلك, وبعضهم يكبَرُ حتى يبلغ سن الهرم وضَعْف العقل; فلا يعلم هذا المعمَّر شيئًا مما كان يعلمه قبل ذلك. وترى الأرض يابسةً ميتة لا نبات فيها, فإذا أنزلنا عليها الماء تحركت بالنبات تتفتح عنه, وارتفعت وزادت لارتوائها, وأنبتت من كل نوع من أنواع النبات الحسن الذي يَسُرُّ الناظرين.