هجرة الطيور ليست مأساة دائماً!

كتب الراحل محمد بديع سربيه عام 1983:

الموضة السائدة في العالم السينمائي هذه الأيام هي تحوّل أكبر وأشهر الممثلات العربيات إلى مؤلِّفات!..
والممثلات اللواتي يكتبن قصصاً سواء من وحي خيالهن أو من صميم تجاربهم وواقعهن، لا يحتفظن بها لأنفسهن، ولا حتى يكتفين بنشرها في الصحف أو في كتاب خاص، وإنما يجدن من يغامر بإنتاجها سينمائياً، باعتبار أنّ إسم الممثلة، إذا كان له بريق فإنه يجعل للفيلم جاذبية تجارية، وخصوصاً عندما يظهر هذا الإسم تحت كلمة “تأليف” وليس فقط أمام كلمة “بطولة”!..
وموضة تحوّل الممثلات إلى مؤلفات قصصيات أصبحت مادة للتندّر والتعليقات الساخرة في المجتمعات الفنية، لأن الذي يتصوّره البعض أن تأليف القصص هو موهبة لا تولد فجأة، وإذا كانت الممثلة قد امتلكت الجمال، أو حتى الموهبة التمثيلية، فليس معنى هذا ان تصبح مؤلّفة بين ليلة وضحاها!..
وهنا لي كلمة..
فإن أية ممثلة عندما تكتب قصة ما، فليس معنى هذا انها قد أصبحت “مؤلِّفة” وإنما هي مجرّد راوية لتجارب مرّت بها شخصياً، أو وقائع عاشتها، أو حكايات سمعتها، ومن هنا فإن صفة “التأليف” تظلّ بعيدة عنها، والوصف الأقرب إليها في هذه الحالة هو: “الناقلة من الواقع”!..
وإذا كان الأمر هكذا، فإن الذي أقوله هو أن النجمة الممثلة مريم فخر الدين هي الأكثر قدرة على كتابة القصص السينمائية والمثيرة، لأنني أتصوّر انها عاشت أحداثاً وتجارب أكثر من أية ممثلة عربية، بل لو أنها روت قصصاً من حياتها هي، لكان في هذه القصص الكثير من الإثارة ولكان فيها أيضاً الجديد الذي لم يُروَ من قبل في قصص سينمائية سابقة!..
وفي تصوّري أنّ مريم فخر الدين هي أحسن مَن تكتب ـ أو بتعبير أصح تروي على الورق ـ قصة أتخيّل لها واحداً من الأسماء التالية: “المهاجرة” أو “الطيور المهاجرة” أو “عندما هاجرت الطيور” وليس ضرورياً أن تروي هذه القصة قصة هجرة طير واحد، وإنما تكون أحداثها معبّرة عن الظروف التي تهاجر فيها الطيور عن بلادها وأوطانها وأغصانها!..
وأقول أنّ مريم فخر الدين هي أحسن مَن يكتب قصة من هذا النوع لأنها كانت هي نفسها أول الطيور المهاجرة، بل ان شجاعتها في الهجرة كانت هي التي فتحت الآفاق أمام سواها للهجرة، عندما لم يعد في قدرة الطيور أن تغرّد على أغصانها بحُرّية وفرح!..
ان سطوراً في مفكّرتي هي التي أعادت إليّ ذكريات هجرة مريم فخر الدين..
كان في ذلك في ربيع عام 1967.
ودعاني المنتج السينمائي الراحل رمسيس نجيب إلى تناول العشاء مع فريق من الأصدقاء في شقته بعمارة “ليبون” في “الزمالك”. وكان قد بدأ يعيش في هذه الشقة لوحده بعد طلاقه من النجمة الممثلة لبنى عبد العزيز، وقال لي الصديق وهو يدعوني:
* سوف تجد في السهرة مفاجأة فنية مثيرة لك!..
ورغم إلحاحي عليه، فإنه رفض أن يكشف لي عن طبيعة هذه المفاجأة، إلى أن جاء الليل وذهبت إلى السهرة، واكتشفت ان المفاجأة هي وجود مريم فخر الدين في السهرة!..
وكانت النجمة الممثلة قد غابت ليس عن الشاشة فقط، بل وعن العالم الفني كله، بعدما تزوجت طبيباً وسافرت للإقامة معه في ألمانيا، ولم أدرِ يومها إذا كان وجودها في سهرة رمسيس نجيب هو مقدِّمة لعودتها إلى الأضواء، ولكن الذي صُدمت به هو أن مريم فخر الدين بدت وكأنها قد كبرت عشرين سنة عن عمرها الحقيقي، وشحب وجهها إلى الدرجة التي أسدل معها ستاراً كثيفاً على جمالها الذي اشتهرت به منذ أول الخمسينات، وعند انتخابها ملكة لجمال غلاف مجلة “إيماج” الفرنسية!..
وفي تلك السهرة، جلست إلى جانب مريم فخر الدين طوال السهرة، وعرفت منها انها قد انفصلت عن زوجها الطبيب بعد أن أنجبت منه ولداً، ثم ومن كلمات غامضة ومبهمة خرجت من بين شفتيها همساً، فهمت أنّ النجمة الممثلة تعيش في أزمة وأنها محاصرة بحزام من المتاعب والمخاوف يكاد أن يطبق عليها!..
وانتهت السهرة وذهبت مريم فخر الدين بعدما تواعدت معها على لقاء بعد يومين في صالون فندق “شبرد” في القاهرة..
وانتظرتها في الموعد الذي اتفقنا عليه فلم تحضر، ولم يكن هناك مكان أسأل فيها عنه، وحتى المنتج رمسيس نجيب لم يعد يعرف عنها شيئاً ولم يرها أبداً بعد السهرة.
ومرّ أسبوع وعدت إلى بيروت، وبمجرّد أن ذهبت إلى مكتبي، رنّ جرس التليفون عندي، وكانت المتكلّمة هي مريم فخر الدين..
وصحت:
* من إيمتى انت هنا؟
فأجابت:
ـ من اليوم الذي اتفقنا فيه على اللقاء في صالون فندق “شبرد”.. انني رأيت فرصة للهرب فاغتنمتها خوفاً من أن لا تسنح لي فرصة مثلها.. وها أنا عندك في بيروت، وسوف أُقيم فيها إلى وقت طويل!..
ولم يطل الحديث التليفوني..
فبعد ساعات ثلاث فقط، كانت مريم فخر الدين في مكتبي، ومن يومها بدأت أسمع منها قصصاً غريبة عما يحدث للطيور الفنية، بحيث بات الصداح محرّماً عليها، والحرية بعيدة عنها، والأشباح تحاصرها من كل جانب!!.
وأقامت مريم فخر الدين في بيروت لتكون أول الطيور المهاجرة..
ومن بعدها هاجرت النجمة الكبيرة فاتن حمامة، حيث اعتزلت الأضواء تماماً وعاشت في لندن كسيدة عادية.
ثم هاجر الموسيقار فريد الأطرش وأقام في بيروت!..
وكثيرون من المخرجين والمنتجين والممثلين هاجروا أيضاً وتوزّعوا بين بيروت ودول الخليج العربي وأوروبا أحياناً، ولم يكن السبب في هجرتهم كلهم هو السبب نفسه الذي كانت من أجله هجرة مريم فخر الدين، بل اختلفت الأسباب، وكان أهمها أنّ حرية العمل الفني لم تعد متوفّرة، بعد أن قامت هيئات ومؤسسات حُصرت بها كل الأعمال الفنية، وكان يشرف على هذه الهيئات والمؤسسات أهل الحظوة وليس أهل الخبرة!..
وعلى سبيل المثال فإن الموسيقار فريد الأطرش روى لي السبب الذي من أجله أوقف في منتصف الستينات كل نشاط سينمائي له في القاهرة وجاء إلى بيروت!..
ان الهيئة التي حصر بها وحدها إنتاج الأفلام السينمائية في مصر، عُيّن رئيساً لها دكتور في الاقتصاد، ولكن لا خبرة له على الإطلاق في الأمور السينمائية!..
ويوماً، جرت مفاوضات بين الدكتور في الاقتصاد والموسيقار الكبير، حول فيلم سينمائي كبير تنتجه الهيئة، ويمثّل دور البطولة فيه فريد الأطرش..
ان “الدكتور” سأل “الموسيقار” قائلاً:
* يا أستاذ فريد، كم ستأخذ من الهيئة أجراً عن تمثيل هذا الفيلم؟
وردّ “الموسيقار”:
ـ أقل بخمسة آلاف من الأجر الذي كنت أتقاضاه من شركات القطاع الخاص عندما كنت أمثّل أفلاماً لحسابها!..
وسأله الدكتور:
* يعني كام يا أستاذ فريد؟
أجاب فريد الأطرش:
ـ انني أتقاضى من شركات القطاع الخاص مبلغ خمسة وعشرين ألف جنيه عن كل فيلم، ولكنني على استعداد لأن أتقاضى من الهيئة مبلغ عشرين ألف جنيه فقط..
وبهت “الدكتور” وقال:
* إيه؟ عشرين ألف جنيه؟ انت عارف أن مرتّبي أنا في السنة ستة آلاف جنيه..
وابتسم فريد وظنّ “الدكتور” يمزح معه وقال:
ـ يا دكتور.. مرتّبك شيء، وأَجري عن الفيلم شيء آخر..
فقاطعه الدكتور قائلاً:
* أنا عارف ليه الأستاذ والدي دخّلني الجامعة عشان طلّعني دكتور في الاقتصاد.. ألم يكن الأفضل لو أنه جعلني فناناً!..
وهنا وقف فريد الأطرش عن كرسيه وقال:
ـ ان الفنان لا يعمله أحد يا دكتور.. انه موهبة تخلق مع الإنسان، وحتى لو حاولت انت أن تكون فناناً فلن تكون بسهولة مثل فريد الأطرش..
وهاجر فريد الأطرش..
وانضم إلى الطيور المهاجرة..
ولكن زمن الهجرة لم يطل كثيراً.. فقد زالت بعدئذٍ الظروف التي فرضت على الطيور أن تهاجر، وفي خيال كل منها عشرات القصص عن أيام الهجرة التي تصلح لأن تكون قصصاً سينمائية وإنْ تكن مريم فخر الدين هي الأغنى بهذه القصص التي اقتربت في بعض الأحيان من الطابع المأساوي، وكادت أن تكون في مرات عدّة ضحية لها!..
وقد تكتب النجمة الممثلة غداً قصة “الطيور المهاجرة”..
وإذا بدأت فعلاً في كتابتها فإن فصولاً يجب أن تُضاف إليها عن هجرة طيور الفن من لبنان في زمن الحرب!.
والهجرة كان لها مبرّر أكثر من هجرة طيور الفن في الستينات من مصر..
انها كانت هنا هروباً من القتل والدمار ورصاص القنص، والسيارات الملغومة التي تنفجر لاسلكياً!..
ولكنها أيضاً كانت هجرة.. مثمرة!..
ان الطيور الفنية التي هاجرت من لبنان في زمن الحرب كانت تتعذّب نفسياً، أمّا مادياً وشهرة وثراء ورخاء وبسطاً وانشراحاً فإنها كانت على خير ما يرام!.
وهكذا فإن “الهجرة” عند اللبنانيين هي دائماً سبيلهم إلى العز والرخاء..
ففي الحرب العالمية الأولى وبعدما هاجر لبنانيون كثر إلى مختلف القارات هرباً من أهوال الحرب، ومن المجاعة التي كانت تهدّد البشر، وبقدر ما نالهم من عذاب في هجرتهم هذه، بقدر ما كانت خيراً وبركة عليهم فيما بعد، إذ أصبحوا من كبار الأغنياء في البلاد التي هاجروا إليها، بل ان بعضهم قد أوصل أولاده أو أحفاده إلى أعلى الرئاسات!..
وأيضاً فإنّ ما كان يعانيه جنوب لبنان من فقر وتخلّف، نتيجة لإهمال الدولة له في سنوات الإستقلال الأولى، بحجة انه منطقة ساخنة تتاخم حدود اسرائيل، قد دفع بالعديد من أبنائه إلى الهجرة منه ليس إلى بيروت بل إلى البعيد، وبالذات إلى القارة الأفريقية التي كانت في مرحلة النمو، وأثمرت الهجرة الجنوبية وأعطت خيراً كثيراً، وليس مبالَغة القول اليوم بأن المغتربين الجنوبيين العائدين إلى وطنهم هم الأكثر غنى بين كل الفئات اللبنانية!.
وهكذا كان الحال في الحرب اللبنانية الأخيرة التي اندلعت في منتصف السبعينات!..
ان طيور الفن التي هاجرت حطّت على أغنى الأغصان، وقطفت أحلى الثمار، ولقيت من الشهرة والغنى والإعجاب، أضعاف ما كانت تلقاه في بلادها قبل الحرب، واسألوا: صباح، سميرة توفيق، وديع الصافي وهاتوا أشرطة “الفيديو كاسيت” وتفرّجوا على لياليهم الأوروبية في فترة الهجرة!..
وهكذا فإن الطيور تهاجر..
ولكن، ربما كانت الطيور اللبنانية وحدها هي التي تعود غانمة من الهجرة..
ومريم فخر الدين حتماً لن تنسى هذا الواقع المثير وهي تكتب قصة الطيور عندما يحكم عليها الزمن بأن تهجر غصونها..
هذا إذا فكّرت أو أرادت أن تغامر بكتابتها!..

الموضوع الأصلى : هجرة الطيور ليست مأساة دائماً! المصدر : قيثارة الغناء العربى

توقيع العضو:

نور الحياة شاكر