إعادة حرق الحصون السبعة علي أيدي الطنبورة
وأصحاب المصطبة ومؤسسة فورد الامريكية



مرسي سلطان
أثارت أخبار الأدب عدد '1' سبتمبر 2002 ردود فعل غاضبة لدي أوساط الفنانين الشعبيين ببورسعيد بسبب ما جاء علي لسان زكريا ابراهيم في وصفه لفرق السمسمية الأخري ب(سمسمية العوالم) ووصفه للعازفين الأوائل للسمسمية ­ص 20 ­بأنهم:
(عازفين شبه مزاجيين، وأجرهم هو مزاجهم، فكانوا شبه متسولين)!!
كما ذكر أن انتقال السمسمية الي بورسعيد كان:
(علي يد شخص يدعي عبدالله كبربر، جاء من السويس وظهر في مخانة حسن متولي، وهي غرزة لتدخين الحشيش والجلوس معا في قعدة حظ).
والكلام كما هو واضح، لايحمل فقط تعاليا علي الرواد الأول لذلك الفن، بل يسيء إليهم، وإلي تاريخهم بقصد تشويهه.
فالريس حسن متولي الذي يحكي عنه، كان يعمل سائق لنش في الميناء، وكان فتوة المناخين، طولا بعرض، ذو وسامة لاتعرف الجهامة، عندما يرفع العصا ليرقص بها، وعندما يرفعها ليضرب، تجري الفتوات من أمامه، صاحب نخوة وشهامة، وصاحب صاحبه، بني ذلك المقهي في أواخر العشرينات، ليجلس فيها مع أصحابه، وأسماها 'قهوة السبع حصون'، والتي لم تكن مجرد غرزة كما يصفها زكريا ابراهيم، بل كانت مقهي متسعا به سبعة أبواب، ويرتاد القهوة جميع أصناف البشر من كل الطوائف، وكل جماعة لها باب تجلس فيه، كجماعة البمبوطية وتجار البحر.. سائقي اللنشات وأصحا بالفلايك، جماعة تجار سوق الجملة، حتي العربجية كان لهم جانب وحصن الحاج حسين الشلودي في قهوة حسن متولي، الي جانب بعض الأثرياء وكبار عائلات بورسعيد كالشيخ صديق لهيطة، والأخوان احمد ومحمد الصياد ­وكانا ايضا يكتبان الشعر­ ووسط تلك الجماعات، كانت تجلس جماعة الفن والضمة والسمسمية، تتحلق حول حسن متولي، يزوره فيها زكريا الحجاوي الذي زامله في المدرسة الابتدائية، وظلت صداقتهما علي حالها، فيقدم الحجاوي خماسي السمسمية الذي كونه حسن متولي ليغني في الاذاعة المصرية علي الهواء في الخمسينيات، وتردد علي القهوة المطرب عبدالعزيز محمود ابن بورسعيد، فكانت الملتقي لمحبي الفن والغناء، وكما جذبت الرسام الشعبي الموهوب طه شحاتة، جذبت اليها سيد الملاح وهو لايزال طالبا في الاعدادية، يهرب من الدراسة ليجلس عليها ويحفظ ادوار الضمة والسمسمية، أما الفنان محمود شكوكو، فكان علي علاقة قوية بالمكان، وكان لديه صديق من رواد القهوة يعمل بمبوطي اسمه حسن صفريته، تعلم منه شكوكو حركات وايقاعات الرقص البورسعيدي، بعدما كان يكتفي بالرقص البلدي التقليدي، فكانت الرقصة التي سجلها تمثاله الشهير، وهو يضع يده علي رأسه، كاللازمة التي كانت تلازم حسن صفريته، والذي غني له شكوكو منلوجا خاصا يقول فيه:
الود حسن صفريته اجدع ولد في النطيطه
يطلع شليع ع الفرقيطه ويجيب فلوس بالطورنيطه
ضيع فلوسه ع الشيكوليطه والجميل وينه والنبي يابا؟!
وفي مجال السمسمية، كانت الرياسة للريس حسن متولي، وكان الصجية يغنون له ترحيبا خاصا به عندما يرونه داخلا الي حلقة المجال:
حسن ياحسن من يوم فراقك ياحسن
ياتري الأيام تعود لنا والمنزل يجمعنا؟!
كما أنه أول من لحن وغني 'دا كنالنا وبحرنا' أثناء المواجهة عام 1956، و'يابورسعيد جه يوم عيدك'
­من كلمات أحمد الصياد ­عقب الحرب التي احرقت حي المناخ بأكمله، وأحرقت معه 'قهوة السبع حصون' التي كانت عالما بأسره.
تلك هي ملامح شخصية حسن متولي. الشهم ابن البلد، فحين جاء عبدالله كبربر مرتحلا من السويس، وتحت إبطه آلة السمسمية، لم يجد مكانا يتسع له سوي 'قهوة السبع حصون' الذي استضافه فيها حسن متولي، يأكل ويشرب، وينام فيها لمدة ثلاث سنوات متواصلة، يرحل بعدها الي الاسماعيلية ­فحياته كانت ترحال دائما­، لكن كبربر لم يكن متسولا لدي حسن متولي، بل ظل ضيفا كريما معززا يلبس البدلة والكرافتة والطربوش، ومن حقه طلب الخمر كل يوم، ويلبي له كل ما يطلب.
وكما رحبت به بورسعيد، رحبت به الاسماعيلية قبل ان يعود بعد فترة وجيزة منها الي السويس، ثم يختفي نهائيا بعد أن نشر آلة السمسمية علي طول منطقة القناة.
لكن يبدو أن زكريا ابراهيم لم يستمع جيدا، ولم يستوعب مما حكاه له محمد الشناوي عن تاريخ الضمة والسمسمية غير قشور الحكايات، واكتفي بتصوراته عن الماضي قياسا علي ما يراه في الحاضر، وأطنب في مدح نفسه كثيرا، بقدر ما أساء للفنانين الحقيقيين، واعتدي علي حقوقهم حين نسب جهودهم الي شخصه، كما هو الحال مع الفنان محمد الشناوي الذي أشرف علي تطوير فرقة الطنبورة في بداياتها وضبط ألحانها وأغانيها ودرب أفرادها وقام بتحفيظ زكريا الأدوار التي يغنيها حين لم يكن وقتها سوي الممسك بكيس التمويل، بل أن الفرقة التي يدعي تأسيسها، كانت موجودة من قبل أن يهبط عليها زكريا، وكانت تقيم بروفاتها في حزب التجمع قبل ان يقنع أفرادها بالبحث عن مقر آخر، ويغير اسمها من فرقة بورسعيد للتراث الشعبي الي فرقة الطنبورة، استعدادا لتلقي أموال التمويل من مؤسسة فورد الامريكية.
وضمن ما أورده زكريا ابراهيم من تصورات خاطئة، ذلك ادعاؤه بوجود علاقة بين أغاني الضمة والغناء الصوفي وحلقات الذكر والدروشة، والتي نراها علاقة ملفقة هدفها استرضاء الواقع الحالي.
فالضمة لم تفد من الريف أو الصعيد، بل هي غناء أهل البحر الوافد من دمياط، فبعد افتتاح قناة السويس للملاحة عام 1869، أخذ ميناء دمياط ينطفيء تدريجيا، ويهاجر منه المئات من أصحاب المهنة البحرية الي بورسعيد، وتنتقل معهم الضمة باغانيها القديمة وما داخلها من أغاني الشام مثل:
يارايحين لحلب حبي معاكم راح
يامحملين العنب تحت العنب تفاح
حيث كانت دمياط هي الثغر الشرقي ومرسي الشام، فيها تبني المراكب الخشب، ومنها تقلع 'الشخاطير' ­مراكب الشراع­الي موانيء الشام بالتجارة، وتعود بالبحارة وهم يغنون علي دفوفهم أغاني أهل الشام، كما يغنون أغاني اسلافهم.
فكانت حلقات الضمة هي دعوة للالتحام مع الحياة والاقبال علي ملذاتها، فتغني للحب والخمر، ولا تكتمل إلا بهما.
ولم يحدث ان اختلطت حلقات الذكر، او ناس الصوفية، بحلقات الضمة، والذي يعرف بورسعيد وقتها، يعلم انها المدينة الوحيدة التي لم يوجد بها ضريح لشيخ أو مقام لولي تقام في رحابه حلقات الذكر، بل كانت حلقات الذكر تقام داخل المساجد، فكيف يلتقي الساعون الي العفو والتجرد من دنيوية الحياة، مع حلقات الضمة الصاخبة التي كانت تقام في الشوارع، ولاتخلو من شجار محتمل؟
كما أن المناخ السائد في بورسعيد ذلك الوقت، شهد تعددا لاحصر له في اختلاط الأعراق والأجناس لم يقتصر الي الصعيد والدلتا فحسب، بل شمل اركان المعمورة بمختلف ثقافاتها وفنونها، وسمح بها جنبا الي جنب. لمصلحة من يتم تشويه صورة التراث البورسعيدي ورموزه من الرواد الاوائل، وحشو تاريخه بالأكاذيب الملفقة؟ وفي هذا التوقيت بالذات؟
هل هي مؤسسة التمويل الأمريكية (فورد فاونديشن)؟
نعم، فالاجابة تبدو واضحة فيما استراب منه الزميل محمود الورداني ص 17، وهو يصف نفسه ب 'الدقة القديمة'، وكأنه اعتذار مسبق عما يقدمه!
نقول له: عندك حق، فهي ريبة في محلها ولابد منها طالما نحن مستهدفون من قبل الغرب عامة، ومن قبل امريكا خاصة، فمؤسسة فورد التي تقوم بتمويل أنشطة الطنبورة ­اكثر من مائة وعشرين ألف دولار سنويا ­، هي في قلب المنظومة المعلوماتية الامريكية التي يسترشد بها القرار الامريكي، وتكاد تكون احدي الواجهات العلنية لأنشطة المخابرات الامريكية حول العالم، والتي تضخ الC.I.A من خلالها الأموال للمثقفين والنشطاء.
وهي مؤسسة ليست بعيدة عن العمل السياسي، ساهمت منذ وقت قريب في الاطاحة بالرئيس الفنزويلي شافيز قبل ان تتمكن الحركة الشعبية من اعادته للسلطة، كما شاركت من قبل في الاطاحة بحكومة الليندي في شيلي لصالح العسكريين حين تهددت المصالح الامريكية هناك، مستترة تحت نفس الشعار المخادع 'حرية العمل الأهلي' والذي في حقيقته خدمات مدفوعة الأجر، وشراء ذمم قد يصل الي حد الخيانة.
إن ذلك النوع من الخداع تحت ستار التعاون المشترك، أو التمويل بهدف التنمية، قد ينطلي علي السذج، لكن مصيرهم سيكون اسوأ من مصير الهنود الحمر حين قبلوا هدية الجيش الامريكي لهم بمناسبة الصلح، وكانت عبارة عن صفقة من البطاطين الموبوءة بجراثيم الجدري.
انهم يحرثون الأرض قبل مجيئهم!
عن صحبة ولاد البحر

الموضوع الأصلى : إعادة حرق الحصون السبعة علي أيدي الطنبورة  المصدر : قيثارة الغناء العربى

اول مرة اسمع بالطنبورة والسمسمية ومستمتعة جدا بابالتأريخ شكرا لك

الموضوع الأصلى : إعادة حرق الحصون السبعة علي أيدي الطنبورة  المصدر : قيثارة الغناء العربى