تاريخ القبقاب
نصيحةٌ من أهل الشام: «البسوا في أرجلكم القبقاب، فهو من الخشب ومريحٌ للقدمين، ولا يتأثر بالحرارة أو البرودة، ولا يسبب التشققات الجلدية، وبعدين ما في أحنَّ من الخشب على بني آدم..».
قبقاب شجرة الدرلو عدنا إلى كُتُب التاريخ والتراث لوجدنا أنَّ لبس القبقاب كان منتشراً في البلاد العربية والإسلامية، حيث ينسب البدري في كتابه «نزهة الأنام في محاسن الشام» هذين البيتين لابن هانئ الأندلسي في وصف لسان حال القبقاب:
كنتُ عضنـاً بين الأنـام رطيبـاً مائس العطف من غناء الحمام
صرتُ أحكي رؤوس عداك في الذل بـرغـم أداس بـالأقــدام
وتعتبر دمشق من أشهر المدن العربية الإسلامية التي عُرفت بصناعة القبقاب، وكان لها سوق مخصوصة وراء الجدار القبلي من الجامع الأموي، يعرف بسوق القباقبية، ومن هذا السوق العريق كانت تُحمل مصنوعاته الخشبية المختلفة، وخاصةٌ القباقيب إلى مصر وبيروت وإستانبول، برغم وجود الحرفيين المهرة، إلا أنَّهم ليسوا بحرفية ومهارة الدمشقيين.
وعادةً يستعمل في صناعة هذا المداس الخشبي خشب الجوز والمشمش والتوت والصفصاف والزان، أمَّا في دمشق فيصنع من خشب الصفصاف والحور، حيث يقطعونه شرائح على أشكال أسافين ويرسمونه على قدر قدم الإنسان حسب المقاس، وبعدها تأتي عملية التفكيك، وفيها إزالة الزوائد الخارجية من الجانبين، ثم النشر بعملية اللف وهي إزالة الزوائد الأمامية والخلفية، وبعدها تأتي عملية التقدير، وهي تشكيل كعب القبقاب، ثمَّ يأتي دور التنعيم أي حفُّ القبقاب تمهيداً لِطَلْيهِ، وأخيراً يركب عليه السيّر، وهو قطعة من الجلد تثبت على مقدمة القبقاب بمسامير خاصة تسمى «مسامير قباقبية» ويكون السيَّر بألوان مختلفة وأحياناً يُطعم بالصدف والعظم، وتُمَدُّ فيه أسلاك من القصدير، أو الرصاص.
ومن المتعارف عليه أن القبقاب كان يلبس داخل البيت خاصةً لسيدات وربات البيوت، باعتباره مريحاً في الحركة والعمل في شؤون البيت، وفي الأسواق والأزقة، كان الرجال يلبسونه أيضاً اتقاءً للوحل أيام الشتاء حيث يقول في ذلك أبو الحسن الجزار:
جبتي في الأمطار جلدي ولُبَّا دي ثوبي، وبغلتي قبقابي
وللقباقيب الدمشقية أشكال ومسميات، ولم يحفظ من أسمائها القديمة إلاَّ الزحاف، ويقال له الزحافي، وقد ذكره “المقريزي” عند المجادلة الكلامية بين قاضي القضاة زين الدين التفهي الحنفي مع الميموني، عندما حكم عليه بسفك دمه والميموني يقول له: «اتق الله يا عبد الرحمن، أنسيت قبقابك الزحَّاف وعُميَّمتكَ القطن» .
وبالمناسبة يعتبر الزحاف أكثر الأشكال رواجاً لرخصه، وترغبه العوام لسهولة المشي والجري به.
وشكل آخر كان يسمى فيما يبدو «قبقاب سجك»: قدمه لاصق بالأرض و المؤخرة كعب بطول ثلاثة قراريط، وقد أشار إليه ابن إياس في وفاة قاضي محيي الدين بن النقيب بمصر 922/1516م :
«وكان سبب موته أنه كان يمشي في الأسواق بقبقاب سجك فتوجه إلى خان الخليلي فرفسه فرس فوقع على فخذه فأنكسر فحَملوه إلى خلوته التي في المدرسة المنصورية فأقام بها أياماً ثمَّ مات»
وفي دمشق اليوم ما يسمى « الشبراوي» والتسمية جاءت لارتفاعه شبراً، وهو قبقاب نسائي استخدمته المرأة الدمشقية، ويكون خشبه مصدفاً وسيره مطرزاً بخطوط الفضة، وهناك القبقاب الجركسي أو ما يسمى «المهاجرين» وجاءت تسميته لقيام بعض الحرفيين من المهاجرين والجراكسة، الذين قِدموا دمشق بصناعَتِهْ على أهل بلادهم الأصليين، وهو أقل الأشكال ارتفاعاً وألصقها بالأرض وأبخسها ثمناً، وهناك العكاوي وهو دون الشبراوي علواً، ولا يُدرى سبب التسمية، هل لأن أهل عكا يلبسونه خاصةً، أم كان يُصنع قبلها في مدينتهم عكا ؟؟
وهناك قبقاب «الكندرة» ويشبه قبقاب الجراكسة إلا أنَّ له مقدمة ومؤخرة أرجل بطول «أربعة قراريط» لاصقة بالقبقاب لأنها تنزل في تجويفين من مقدم سطح القبقاب ومؤخره وهي تصنع خاصةً لحمامات دمشق فقط، ويلبسها صَّناع الحمام والزبائن في البَرَّاني، وقد يلبسه أيضاً كثير من الفقراء والموسرين اتقاءً لأوحال الشتاء، كما ورد ذكر قبقاب «نصف كرسي» من ضمن الأشكال المعروفة، ولكن لا يوجد مصدر واحد للتعريف به.
هذا عن شكل القبقاب، أما عن ارتفاعه فربما وصل الارتفاع إلى نصف ذراع، وكان يلبسه من كان يرغب في تطويل قامته لابتلائه بالقصر المفرط، أو كان محبَّاً للعظمة والظهور، فيعمل بهذا القبقاب إلى وصل قامته بطول قبقابه ، وقديماً كان منهم على سبيل المثال والمزاح: «الحسام أفوش، المؤذن بالجامع الأموي في القرن السابع للهجرة»: «حيث عُمل له قبقاب عالٍ جداً ليرفعه عن الأرض، كان يطلع به جرياً على سلالم كلِّ مئذنةٍ واعتادَ ذلك» وفي قصص التاريخ أغرب من ذلك ما حُكي عن أحد لاعبي السيرك الذي حضر لدمشق من حلب 924/1518م حيث: «نصبَ في بركة القرع بالحسينية صواري وحبالاً وكان يوم جمعة، فلما صعد على الحبال، أظهر فنوناً غريبة منها أنه مشى على الحبال وفي رجله قبقاب وتحته ألواح الصابون» .
اعتاد الناس لبس القبقاب قديماً فكانوا يصعدون الجبال أو يسافرون به مشياً، وبهذا السياق حكى “أبو شامة” عن الشيخ أبي عمر شيخ الصالحية والمقادسة، والمتوفى 607/1210م : «أنَّه كان يصعد يوم الاثنين والخميس إلى مغارة الدم «في جبل قاسيون» ماشياً بالقبقاب فيُصلِّي فيها ما بين الظهر والعصر»
وأيضاً ما قيل عن الشيخ أبو العباس أحمد بن قدامة المقدسي المدفون في سفح قاسيون 558/1163م أنه: «كان صاحب كرامات، وأنه مشى على نهر يزيد بالقبقاب ولم يبتل)
ومن القبقاب ما كان سبباً للهلاك والموت، وهذا ما حدث لقاضي الحنفية بمصر: «برهان الدين إبراهيم الكركي» 922 ـ 1516م.
«كان على بركة الفيل على سُلَّم القيطون ليتوضأ وفي رجله قبقاب فزلقت رجله فوقع في البركة، وكانت في قوة ملئتها أيام النيل ولم يتفق له أحد يسعفه فاستبطؤوه وطلبوه فوجدوا عمامته عائمة وفردة القبقاب على السُلَّم»
وحدث أيضاً في 857/1453م أنه «دخل رجل من العوام جامع الأزهر، فأمسكه المجاورون برواق الأرياف وذكروا أنَّه أخذ لهم قبقاباً، وتكاثروا عليه وضربوه حتى مات»
وأطرف ما وصل إلينا عن شجرة الدر وقصتها التاريخية المعروفة بِضَربها بالقباقيب حتى ماتت: أنه في 655/1257 م.
توفي السلطان المعزُّ أيبك التركماني، وكان قد تزوَّجَ بشجرة الدر حظيَّةِ معلِّمِهِ الملك الصالح، ثم خطب ابنة صاحب الموصل، ولما تحققت شجرة الدر من هذا الزواج، أغرت به الخُدَّام في الحمام، وجعلت الجواري تركله وشجرة الدر تضربه بالقبقاب إلى أن مات، ثم حكم بعد مدة ابنه الملك المنصور «نور الدين عليّ» فُحملت شجرة الدر إلى أمه، فضربها الجواري بالقباقيب إلى أن ماتت.
وكان آخر ما ختم به تاريخ القبقاب أنَّه دخل في أدوات التفرير والعقوبات، عندما كان يُعلّق في عنق المُشهَّر بهم، ففي 853/1449م : «عُزّر شخص وطيف به على حمار وفي عنقه قبقاب»، وفي هذا المعنى وضع أمين الدين الدمشقي الصالحي الهلالي المتوفي 1595ـ1596م، شعراً في هجاء بني الخطاب الذين كانوا قضاة المالكية في دمشق سماه «قرع القبقاب في قرعه بني الخطاب» وفيه كل كلمة عجيبة وكل مسبَّة غريبة.
وانفرد الأغنياء والملوك، باتخاذ القبقاب من الذهب المرصَّع بالجواهر، حيث قال المقريزي في كلامه عن الملك الناصر محمد بن قلاوون: استجدَّ النساء في أيامه القباقيب الذهب المرصعة بالجوهر، وبيع في تركة الأمير علاء الدين اقبغا عبد الواحد «قبقاب وسرموزة وخف نسائي بمبلغ خمسة وسبعين ألف درهم فضة، عنها زيادة على ثلاثة آلاف دينار مصرية»، وفي 774/1372م، قدَّم الأمير منجك نائب الشام إلى مصر، وكان في جملة هديته للسلطان «ثلاثة قباقيب نسائية من الذهب فيها اثنان مرصعان بالجوهر قيمتها مئة وخمسون ألف درهم، عنها نحو ثمانية آلاف مثقال من الذهب».
هذا غيض من فيض الأخبار، التي وجدناها في كتب السير والتاريخ والتراث، ولكن أردنا أن نعرض في هذه الوريقات بعضاً منها، بل ألطفها وأطرفها، واليوم اندثرت القباقيب من أقدامنا، كما انمحت ذاكرة هذا السوق التاريخي الجميل، من أذهان أبناء دمشق: فلقد كان سوق القباقبية ولا يزال قسم منه تباع فيه القباقيب، والسوق لا يختص كما يفهم من اسمه بصناعة القباقيب الخشبية، بل كانت تصنع فيه أيضاً وتباع الصناعات الخشبية المنزلية الدمشقية، من «جرن ومدَّقْ هاون الكبة، وهاون الثوم والملاعق الخشبية وقوالب المعمول وعلاقات الصحون الخشبية وكراسي الحمام، والقش بأنواعها، والنمليَّة ذات المنخل التي كانت تستخدم قديماً لحفظ الطعام من الحشرات، قبل اختراع البرَّاد والثلاجة.
هذه هي دمشق العريقة بصناعتها اليدوية، قديمة بِحِرْفييَّها وصِنَاعييَّها المبدعين، مثلما هي غنية بآثارها وأوابدها التاريخية، ومع أن مهنة صناعة القباقيب في طريقها للزوال، فإنَّ هذا السوق الشعبي التراثي، وما تبقى من الأسواق القديمة الأخرى، يشدنا إلى أريج الماضي، وسحر التاريخ، واليوم ونحن نجتازه من سوق الصاغة القديم إلى مقهى النوفرة التراثي الجميل، ننظر بحزن، وأسى إلى ما آل إليه حال هذا السوق العريق، من غياب عرض القبقاب في محلاته ودكاكينه، بل غدت هذه المحلات تتمة لسوق الصاغة، ولبيع اللوازم المنزلية.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]