السد.. عبدالناصر.. العالي
لم يكن تجاوب جماهير الشعب العربي في مصر وكل الأقطار العربية مع غناء عبدالحليم حافظ قولنا حنبني وأدي إحنا بنينا السد العالى، يا استعمار بنيناه بايدينا، سوي تعبير دقيق المعني والمغزي عن قصة كفاح حقيقية امتلأت بالدماء والدموع والعرق لتروي هذه الملحمة الرائعة، وأيضا عن القدرة إذا توفرت الإرادة علي الاستقلال وتحدي قوي الشر التي لا تريد خيرا لهذا الوطن، كانت ملحمة بناء السد العالي ترجمة واقعية بلا مساحيق أو مكياج لمقولة القائد جمال عبدالناصر ارفع رأسك يا أخي فعلي أرض أسوان كان البناء الضخم الذي ارتفع فوق هامات الرجال الأشداء، وعلي أرض بورسعيد كان الدفاع البطولي عن حقنا في استرداد قرارنا وثرواتنا بعد قرار تأميم قناة السويس.
لم تكن إذن معاني الرجولة والنخوة والشهامة غائبة أبدا، بل أطلت بأضوائها لتملأ النفوس فخرا وعزة وكرامة وتبعث الدفء في الأجساد التي حملت الفئوس والرمال لتشيد السد، ويتحول الظلام إلي طاقة نور والموت والفيضان إلي حياة ونماء.
عجزت الإبداعات الأدبية والسينمائية والتليفزيونية بكل أسف عن تصوير واستكشاف ما حدث في أسوان، فعلتها إبداعات أخري خارج مصر بينما خرج من يلطم الخدود ويشق الجيوب علي ضياع السردين مرددا ما تم تلقينه إياه في مدرسة ال c.i.A ولم يذكر انقاذ أرواح البشر التي كان يحصدها الفيضان وكأن السردين العظيم سوف يأكل نفسه بعد قتل آلاف المصريين قبل بناء السد العالى.
في ذكري ميلاد القائد عبدالناصر 15 يناير 2006 وبعد مرور خمسين عاما علي خروج فكرة إنشاء السد العالي إلي النور نحاول أن نستعيد معا فصولا مختصرة من ملحمة تغني بها ولها عبدالحليم حافظ وقتلناها نحن بالصمت تارة وبالتجاهل تارة أخري!.
مع بداية الستينيات من القرن الماضي احتشدت مصر خلف مشروع السد العالي ولمدة عشر سنوات كان ثلاثون ألف عامل يصلون الليل بالنهار لاستكمال العمل، العمل يتواصل، مهندسون وخبراء ومعدات لا مثيل لها تتوافد علي المكان، تسمع أصوات التفجيرات تتناغم مع أصوات العمال والسيارات والآلات، من أجل تشييد جدارين متوازيين عبر النيل يفصل بينهما رمال وصخور لتشييد جسد السد، ما يزيد علي ثمانية ملايين طن للبناء ومئات الأطنان من المتفجرات والديناميت لنزع مائة ألف طن من الصخور في المرحلة الأولي لتحويل مجري نهر النيل، وأكثر من40 مليون متر مكعب من الرمال والخرسانة، وثلاثين ألف عامل لاستكمال معجزة السد العالي بطول 3600 متر وارتفاع 111 متر فوق قاع النهر وعرض 40 مترا، كان الهدف حماية البلاد من الفيضان والتوسع الزراعي وتوفير الطاقة الكهربائية.
كنا نبحث عن بعضنا البعض للحاق بركب الأحداث العظيمة التي لم يقدر للأجيال اللاحقة أن تشاهدها وكل أغنية من الأغاني التي قمت بتلحينها تحمل وراءها قصة كفاح شعب، وتصميم جيل جاء في موعده مع القدر كما قال عبدالناصر.
تلك كانت كلمات الملحن الكبير كمال الطويل، وهي تعبر عن لحن السد العالي الذي ألفه وغناه وعزفه أبناء السد العالي وصناعه، للخروج من النفق المظلم الذي عاش بداخله الملايين من المواطنين، ولم تكن المعركة سهلة أو طريقها مفروشا بالسجاد الأحمر، سعت مصر الثورة وراء هدف إنقاذ حياة آلاف المصريين الذين كان يحصدهم فيضان النيل، وإنارة ربوع الأرض المصرية في المدن والريف للقضاء علي زمن لمبة الجاز.
قصص مرعبة حفلت بمآس عديدة طواها الفيضان وآن لها أن تتوقف وفي سبيل ذلك الهدف الاسمي رفض جمال عبدالناصر الضغوط والمغريات مغريات الارتماء في أحضان الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وقروض وأموال البنك الدولى، وضغوط الانضمام إلي الأحلاف العسكرية فأعلن عبدالناصر رفضه الدخول في حلف بغداد وإزاء محاولات لي الذراع لجأ عبدالناصر إلي المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي لشراء السلاح، ووجدت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية أن الثورة العربية تتحدي فقاما بسحب عرض تمويل إنشاء السد العالي في 25 يوليو 1956، وسبقهما البنك الدولي بسحب الموافقة علي التمويل.
في 26 يوليو 1956 كان جمال عبدالناصر قد قرر إعلان قرار تأميم قناة السويس ليس ردا علي موقف الغرب من تمويل السد العالي بل استمرارا لمنهج طبقه جمال عبدالناصر منذ اللحظة الأولي لقيام ثورة 23 يوليو 1952 بأن يسترد المصريون أرضهم وما عليها من ثروات لتكون السيادة لمصر لا لأجنبي مهما كان، ولم ينتظر الاتحاد السوفيتي طويلا فقد تقدم بعرض بناء السد العالى، وقررت مصر استغلال قناة السويس بعد التأميم في تمويل بناء السد الأمر الذي أثار الاستعمار القديم والحديث، ودعت كل من بريطانيا وفرنسا إلي وصاية دولية علي قناة السويس، وعقد المؤتمر الدولي في لندن وضم 24 دولة في 16 أغسطس 1956 لبحث الأمر وفشل المؤتمر وفشل غيره من المؤتمرات، فتقرر الشروع في تنفيذ مؤامرة العدوان الثلاثي علي مصر.
والتفاصيل معروفة ودارت الأيام وفي يوم السبت 9 يناير 1960 ضغط جمال عبدالناصر علي زر أحمر فتحول الجبل في الحال إلي كميات من الصخور المتطايرة الصلبة كما يروي الكاتب الصحفي رجب محمود ملحمة السد العالي التي عاشها لحظة بلحظة قدرت بأكثر من 20 ألف طن اهتزت لها جبال النوبة بأكملها مئات المهندسين والعمال باتوا يحفرون 6 فتحات عميقة تشبه الانفاق في الجبل القريب من منطقة خور كندي ويملأونها ب 9 أطنان ديناميت وبالقرب من موقع الاحتفال وفي خيمة كبيرة كان الرئيس عبدالناصر يعرض النموذج المجسم للسد ثم التقي بمن يعملون في المشروع وسألهم عن موعد انتهاء المرحلة الأولي فأجابوا بأنه سيكون في 15 مايو عام 1964، وقال الدكتور حسن زكي رئيس لجنة بناء السد إن محطة كهرباء السد هي أكبر محطة في العالم فسأله عبدالناصر هل هي أكبر محطة علي الإطلاق فرد الدكتور حسن زكي هي أكبر محطة تحت الأرض، وفي 14 يناير 1960 عقد الرئيس الأمريكي إيزنهاور مؤتمرا صحفيا أعلن فيه أن الولايات المتحدة تبحث مسألة تقديم العون للجمهورية العربية المتحدة لتنفيذ المراحل التالية من مشروع السد عن طريق البنك الدولي ولم يستبعد إيزنهاور أن تقدم أ! مريكا قرضا إضافيا لهذا المشروع بعد تقرير للمخابرات الأمريكية حذر من تغلغل السوفيت في إفريقيا عبر مشروع السد العالي ومع بدء المرحلة الثانية للسد سارعت ألمانيا الغربية وقتها بتقديم قروض لمصر بلغت قيمتها 300 مليون مارك.
والسد العالي الذي يساوي حجم الهرم الأكبر 17 مرة تم الإعداد له بعد الثورة مباشرة وهو عبارة عن سد ركامي يغلق مجري النيل علي بعد 8 كيلو مترات جنوب أسوان و6 كيلو مترات جنوب خزان أسوان، مع تحويل المياه إلي مجري جديد من جهة الشرق من خلال مجري جديد عبارة عن قناة مكشوفة تتوسطها 6 أنفاق ويبلغ طول السد الكلي 3600 متر منها 250 مترا بين ضفتي النيل ويمتد الباقي علي هيئة جناحين علي جانبي النهر، طول الجناح الأيمن 2325 مترا علي الضفة الشرقية والأيسر 755 مترا علي الضفة الغربية، وأول تفجير بدأت به المرحلة الأولي للمشروع في 9 يناير 1960 بحضور جمال عبدالناصر والرئيس شكري القوتلي والملك محمد الخامس وتحويل مجري النيل في 15 مايو 1964، وحجم المواد المستخدمة في جسم السد حوالي 43 مليونا و 311 ألف متر مكعب من الركام بما يساوي 17 مرة حجم الهرم الأكبر، ويبلغ ارتفاع السد 111 مترا فوق قاع النيل وعرضه عند القاع 980 مترا وعند القمة 40 مترا، وعمق مجري التحويل 80 مترا وتم حفرها باستخدام 3700 طن متفجرات، والطول الكلي لمجري التحويل 1950 مترا وبها ستة أنفاق يتفرع كل نفق إلي فرعين مجموع طول الأنفاق 2030 مترا يبلغ! قطر النفق 15 مترا ويبلغ مجموع أوزان البوابات داخل الأنفاق 20 ألف طن، وتتصل فروع الانفاق الاثنا عشر بمحطة الكهرباء التي تتكون من 12 توربينة قوة كل توربينة 180 ألف كيلو وات بينما يبلغ قطر عجلة التوربينة 6.3 متر ووزنها 765 طنا بينما تبلغ قوة كل مولد كهربائي 175000 كيلو وات ومجموع وزن المولدات الكهربائية بالمحطة 30 ألف طن، وتم استخدام 200 ألف متر مكعب خرسانة في أساسات المحطة بما يساوي 100 مرة أساسات مجمع التحرير، ويمكن الحصول علي طاقة كهربائية سنوية من محطة كهرباء السد العالي عشرة آلاف مليون كيلو وات/ ساعة.
رهام سعيد