واجعلنا ممن كتبتَ له الصالحات من الأعمال في الدنيا وفي الآخرة, إنا رجعنا تائبين إليك, قال الله تعالى لموسى: عذابي أصيب به مَن أشاء مِن خلقي, كما أصبتُ هؤلاء الذين أصبتهم من قومك, ورحمتي وسعت خلقي كلَّهم, فسأكتبها للذين يخافون الله, ويخشون عقابه, فيؤدون فرائضه, ويجتنبون معاصيه, والذين هم بدلائل التوحيد وبراهينه يصدقون.
هذه الرحمة سأكتبها للذين يخافون الله ويجتنبون معاصيه, ويتبعون الرسول النبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب, وهو محمد صلى الله عليه وسلم, الذي يجدون صفته وأمره مكتوبَيْن عندهم في التوراة والإنجيل, يأمرهم بالتوحيد والطاعة وكل ما عرف حُسْنه, وينهاهم عن الشرك والمعصية وكل ما عرف قُبْحه, ويُحِلُّ لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والمناكح, ويُحرِّم عليهم الخبائث منها كلحم الخنزير, وما كانوا يستحلُّونه من المطاعم والمشارب التي حرَّمها الله, ويذهب عنهم ما كُلِّفوه من الأمور الشاقة كقطع موضع النجاسة من الثوب, وإحراق الغنائم, والقصاص حتمًا من القاتل عمدًا كان القتل أم خطأ, فالذين صدَّقوا بالنبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم وأقروا بنبوته, ووقروه وعظَّموه ونصروه, واتبعوا القرآن المنزل عليه, وعملوا بسنته, أولئك هم الفائزون بما وعد الله به عباده المؤمنين.
قل -أيها الرسول- للناس كلهم: إني رسول الله إليكم جميعًا لا إلى بعضكم دون بعض, الذي له ملك السموات والأرض وما فيهما, لا ينبغي أن تكون الألوهية والعبادة إلا له جل ثناؤه, القادر على إيجاد الخلق وإفنائه وبعثه, فصدَّقوا بالله وأقرُّوا بوحدانيته, وصدَّقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأميِّ الذي يؤمن بالله وما أنزل إليه من ربه وما أنزل على النبيين من قبله, واتبعوا هذا الرسول, والتزموا العمل بما أمركم به من طاعة الله, رجاء أن توفقوا إلى الطريق المستقيم.
وفرَّقنا قوم موسى مِن بني إسرائيل اثنتي عشرة قبيلة بعدد الأسباط -وهم أبناء يعقوب- كل قبيلة معروفة من جهة نقيبها. وأوحينا إلى موسى إذ طلب منه قومه السقيا حين عطشوا في التِّيْه: أن اضرب بعصاك الحجر, فضربه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا من الماء, قد علمت كل قبيلة من القبائل الاثنتي عشرة مشربهم, لا تدخل قبيلة على غيرها في شربها, وظلَّلنا عليهم السحاب, وأنزلنا عليهم المنَّ -وهو شيء يشبه الصَّمغ, طعمه كالعسل - والسلوى, وهو طائر يشبه السُّمَانَى, وقلنا لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم, فكرهوا ذلك وملُّوه من طول المداومة عليه, وقالوا: لن نصبر على طعام واحد, وطلبوا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. وما ظلمونا حين لم يشكروا لله, ولم يقوموا بما أوجب الله عليهم, ولكن كانوا أنفسهم يظلمون; إذ فوَّتوا عليها كل خير, وعرَّضوها للشر والنقمة.
واذكر -أيها الرسول- عصيان بني إسرائيل لربهم سبحانه وتعالى ولنبيهم موسى عليه السلام, وتبديلهم القول الذي أمروا أن يقولوه حين قال الله لهم: اسكنوا قرية "بيت المقدس", وكلوا من ثمارها وحبوبها ونباتها أين شئتم ومتى شئتم, وقولوا: حُطَّ عنا ذنوبنا, وادخلوا الباب خاضعين لله, نغفر لكم خطاياكم, فلا نؤاخذكم عليها, وسنزيد المحسنين مِن خَيْرَيِ الدنيا والآخرة.
فغيَّر الذين كفروا بالله منهم ما أمرهم الله به من القول, ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم, وقالوا: حبة في شعرة, فأرسلنا عليهم عذابًا من السماء, أهلكناهم به; بسبب ظلمهم وعصيانهم.
واسأل -أيها الرسول- هؤلاء اليهود عن خبر أهل القرية التي كانت بقرب البحر, إذ يعتدي أهلها في يوم السبت على حرمات الله, حيث أمرهم أن يعظموا يوم السبت ولا يصيدوا فيه سمكًا, فابتلاهم الله وامتحنهم; فكانت حيتانهم تأتيهم يوم السبت كثيرة طافية على وجه البحر, وإذا ذهب يوم السبت تذهب الحيتان في البحر, ولا يرون منها شيئًا, فكانوا يحتالون على حبسها في يوم السبت في حفائر, ويصطادونها بعده. وكما وصفنا لكم من الاختبار والابتلاء, لإظهار السمك على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده فيه, وإخفائه عليهم في اليوم المحلل لهم فيه صيده, كذلك نختبرهم بسبب فسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها.
واذكر -أيها الرسول- إذ قالت جماعة منهم لجماعة أخرى كانت تعظ المعتدين في يوم السبت, وتنهاهم عن معصية الله فيه: لِمَ تعظون قومًا الله مهلكهم في الدنيا بمعصيتهم إياه أو معذبهم عذابا شديدًا في الآخرة؟ قال الذين كانوا ينهَوْنهم عن معصية الله: نَعِظهم وننهاهم لِنُعْذَر فيهم, ونؤدي فرض الله علينا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ورجاء أن يتقوا الله, فيخافوه, ويتوبوا من معصيتهم ربهم وتعذِّيهم على ما حرَّم عليهم.
فلما تركت الطائفة التي اعتدت في يوم السبت ما ذُكِّرت به, واستمرت على غيِّها واعتدائها فيه, ولم تستجب لما وَعَظَتْها به الطائفة الواعظة, أنجى الله الذين ينهون عن معصيته, وأخذ الذين اعتدَوْا في يوم السبت بعذاب أليم شديد; بسبب مخالفتهم أمر الله وخروجهم عن طاعته.
واذكر -أيها الرسول- إذ علم ذلك إعلامًا صريحًا ليبعثن على اليهود مَن يذيقهم سوء العذاب والإذلال إلى يوم القيامة. إن ربك -أيها الرسول- لسريع العقاب لِمَن استحقه بسبب كفره ومعصيته, وإنه لغفور عن ذنوب التائبين, رحيم بهم.
وفرَّقنا بني إسرائيل في الأرض جماعات, منهم القائمون بحقوق الله وحقوق عباده, ومنهم المقصِّرون الظالمون لأنفسهم, واختبرنا هؤلاء بالرخاء في العيش والسَّعَة في الرزق, واختبرناهم أيضًا بالشدة في العيش والمصائب والرزايا; رجاء أن يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا من معاصيه.
فجاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم بَدَلُ سوء أخذوا الكتاب من أسلافهم, فقرءوه وعلموه, وخالفوا حكمه, يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا من دنيء المكاسب كالرشوة وغيرها; وذلك لشدة حرصهم ونَهَمهم, ويقولون مع ذلك: إن الله سيغفر لنا ذنوبنا تمنيًا على الله الأباطيل, وإن يأت هؤلاء اليهودَ متاعٌ زائلٌ من أنواع الحرام يأخذوه ويستحلوه, مصرِّين على ذنوبهم وتناولهم الحرام, ألَمْ يؤخذ على هؤلاء العهود بإقامة التوراة والعمل بما فيها, وألا يقولوا على الله إلا الحق وألا يكذبوا عليه, وعلموا ما في الكتاب فضيعوه, وتركوا العمل به, وخالفوا عهد الله إليهم في ذلك؟ والدار الآخرة خير للذين يتقون الله, فيمتثلون أوامره, ويجتنبون نواهيه, أفلا يعقل هؤلاء الذين يأخذون دنيء المكاسب أن ما عند الله خير وأبقى للمتقين؟
والذين يتمسَّكون بالكتاب, ويعملون بما فيه من العقائد والأحكام, ويحافظون على الصلاة بحدودها, ولا يضيعون أوقاتها, فإن الله يثيبهم على أعمالهم الصالحة, ولا يضيعها.
واذكر -أيها الرسول- إذ رفعنا الجبل فوق بني إسرائيل كأنه سحابة تظلهم, وأيقنوا أنه واقع بهم إن لم يقبلوا أحكام التوراة, وقلنا لهم: خذوا ما آتيناكم بقوة, أي اعملوا بما أعطيناكم باجتهاد منكم, واذكروا ما في كتابنا من العهود والمواثيق التي أخذناها عليكم بالعمل بما فيه; كي تتقوا ربكم فتنجوا من عقابه.
واذكر -أيها النبي- إذ استخرج ربك أولاد آدم مِن أصلاب آبائهم, وقررهم بتوحيده بما أودعه في فطرهم من أنه ربهم وخالقهم ومليكهم, فأقروا له بذلك, خشية أن ينكروا يوم القيامة, فلا يقروا بشيء فيه, ويزعموا أن حجة الله ما قامت عليهم, ولا عندهم علم بها, بل كانوا عنها غافلين.
وكما فَصَّلْنا الآيات, وبيَّنَّا فيها ما فعلناه بالأمم السابقة, كذلك نفصِّل الآيات ونبيِّنها لقومك أيها الرسول; رجاء أن يرجعوا عن شركهم, وينيبوا إلى ربهم.
واقصص -أيها الرسول- على أمتك خبر رجل من بني إسرائيل أعطيناه حججنا وأدلتنا, فتعلَّمها, ثم كفر بها, ونبذها وراء ظهره, فاستحوذ عليه الشيطان, فصار من الضالين الهالكين; بسبب مخالفته أمر ربه وطاعته الشيطان.
ولو شئنا أن نرفع قدره بما آتيناه من الآيات لفعلنا, ولكنه رَكَنَ إلى الدنيا واتبع هواه, وآثر لَذَّاته وشهواته على الآخرة, وامتنع عن طاعة الله وخالف أمره. فَمَثَلُ هذا الرجل مثل**********, إن تطرده أو تتركه يُخْرج لسانه في الحالين لاهثًا, فكذلك الذي انسلخ من آيات الله يظل على كفره إن اجتهدْتَ في دعوتك له أو أهملته, هذا الوصف -أيها الرسول- وصف هؤلاء القوم الذين كانوا ضالين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة, فاقصص -أيها الرسول- أخبار الأمم الماضية, ففي إخبارك بذلك أعظم معجزة, لعل قومك يتدبرون فيما جئتهم به فيؤمنوا لك.
الدولة : عدد الرسائل : 51922تاريخ التسجيل : 08/12/2007المزاج : بطاقة عضوية :
موضوع: رد: تفسير القرآن الأربعاء 17 فبراير 2010 - 0:45
r=green]]وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (179)
ولقد خلقنا للنار -التي يعذِّب الله فيها مَن يستحق العذاب في الآخرة - كثيرًا من الجن والإنس, لهم قلوب لا يعقلون بها, فلا يرجون ثوابًا ولا يخافون عقابًا, ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته, ولهم آذان لا يسمعون بها آيات كتاب الله فيتفكروا فيها, هؤلاء كالبهائم التي لا تَفْقَهُ ما يقال لها, ولا تفهم ما تبصره, ولا تعقل بقلوبها الخير والشر فتميز بينهما, بل هم أضل منها; لأن البهائم تبصر منافعها ومضارها وتتبع راعيها, وهم بخلاف ذلك, أولئك هم الغافلون عن الإيمان بالله وطاعته.
ولله سبحانه وتعالى الأسماء الحسنى, الدالة على كمال عظمته, وكل أسمائه حسن, فاطلبوا منه بأسمائه ما تريدون, واتركوا الذين يُغيِّرون في أسمائه بالزيادة أو النقصان أو التحريف, كأن يُسمَّى بها من لا يستحقها, كتسمية المشركين بها آلهتهم, أو أن يجعل لها معنى لم يُردْه الله ولا رسوله, فسوف يجزون جزاء أعمالهم السيئة التي كانوا يعملونها في الدنيا من الكفر بالله, والإلحاد في أسمائه وتكذيب رسوله.
ومن الذين خَلَقْنا جماعة فاضلة يهتدون بالحق ويَدْعون إليه, وبه يقضون وينصفون الناس, وهم أئمة الهدى ممن أنعم الله عليهم بالإيمان والعمل الصالح.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182)
والذين كذَّبوا بآياتنا, فجحدوها, ولم يتذكروا بها, سنفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا, استدراجًا لهم حتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا أنهم على شيء, ثم نعاقبهم على غِرَّة من حيث لا يعلمون. وهذه عقوبة من الله على التكذيب بحجج الله وآياته.
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
وأمهل هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا حتى يظنوا أنهم لا يعاقبون, فيزدادوا كفرًا وطغيانًا, وبذلك يتضاعف لهم العذاب. إن كيدي متين, أي: قوي شديد لا يُدْفع بقوة ولا بحيلة.
أولم يتفكر هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا فيتدبروا بعقولهم, ويعلموا أنه ليس بمحمد جنون؟ ما هو إلا نذير لهم من عقاب الله على كفرهم به إن لم يؤمنوا, ناصح مبين.
أولم ينظر هؤلاء المكذبون بآيات الله في ملك الله العظيم وسلطانه القاهر في السموات والأرض, وما خلق الله -جلَّ ثناؤه- من شيء فيهما, فيتدبروا ذلك ويعتبروا به, وينظروا في آجالهم التي عست أن تكون قَرُبَتْ فيهلكوا على كفرهم, ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه؟ فبأي تخويف وتحذير بعد تحذير القرآن يصدقون ويعملون؟
يسألك -أيها الرسول- كفار "مكة" عن الساعة متى قيامها؟ قل لهم: عِلْمُ قيامها عند الله لا يظهرها إلا هو, ثَقُلَ علمها, وخفي على أهل السموات والأرض, فلا يعلم وقت قيامها ملَك مقرَّب ولا نبي مرسل, لا تجيء الساعة إلا فجأة, يسألك هؤلاء القوم عنها كأنك حريص على العلم بها, مستقص بالسؤال عنها, قل لهم: إنما علمها عند الله الذي يعلم غيب السموات والأرض, ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك لا يعلمه إلا الله.[/size]
قل -أيها الرسول-: لا أقدرُ على جَلْبِ خير لنفسي ولا دفع شر يحل بها إلا ما شاء الله, ولو كنت أعلم الغيب لفعلت الأسباب التي أعلم أنها تكثِّر لي المصالح والمنافع, ولاتَّقيتُ ما يكون من الشر قبل أن يقع, ما أنا إلا رسول الله أرسلني إليكم, أخوِّف من عقابه, وأبشر بثوابه قومًا يصدقون بأني رسول الله, ويعملون بشرعه.
هو الذي خلقكم -أيها الناس- من نفس واحدة, وهي آدم عليه السلام وخَلَق منها زوجها, وهي حواء; ليأنس بها ويطمئن, فلما جامعها -والمراد جنس الزوجين من ذرية آدم- حملت ماءً خفيفًا, فقامت به وقعدت وأتمت الحمل, فلما قَرُبت ولادتها وأثقلت دعا الزوجان ربهما: لئن أعطيتنا بشرًا سويًا صالحًا لنكونن ممن يشكرك على ما وهبت لنا من الولد الصالح.
ولا تستطيع أن تنصر عابديها أو تدفع عن نفسها سوءًا, فإذا كانت لا تخلق شيئًا, بل هي مخلوقة, ولا تستطيع أن تدفع المكروه عمن يعبدها, ولا عن نفسها, فكيف تُتَّخذ مع الله آلهة؟ إنْ هذا إلا أظلم الظلم وأسفه السَّفَه.
وإن ندعوا -أيها المشركون- هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله إلى الهدى, لا تسمع دعاءكم ولا تتبعكم; يستوي دعاؤكم لها وسكوتكم عنها; لأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تَهدِي ولا تُهدى.
إن الذين تعبدون من غير الله -أيها المشركون- هم مملوكون لربهم كما أنكم مملوكون لربكم, فإن كنتم كما تزعمون صادقين في أنها تستحق من العبادة شيئًا فادعوهم فليستجيبوا لكم, فإن استجابوا لكم وحصَّلوا مطلوبكم, وإلا تبين أنكم كاذبون مفترون على الله أعظم الفرية.
ألهذه الآلهة والأصنام أرجل يسعَوْن بها معكم في حوائجكم؟ أم لهم أيدٍ يدفعون بها عنكم وينصرونكم على من يريد بكم شرًا ومكروهًا؟ أم لهم أعين ينظرون بها فيعرِّفونكم ما عاينوا وأبصروا مما يغيب عنكم فلا ترونه؟ أم لهم آذان يسمعون بها فيخبرونكم بما لم تسمعوه؟ فإذا كانت آلهتكم التي تعبدونها ليس فيها شيء من هذه الآلات, فما وجه عبادتكم إياها, وهي خالية من هذه الأشياء التي بها يتوصل إلى جلب النفع أو دفع الضر؟ قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين من عبدة الأوثان: ادعوا آلهتكم الذين جعلتموهم لله شركاء في العبادة, ثم اجتمعوا على إيقاع السوء والمكروه بي, فلا تؤخروني وعجِّلوا بذلك, فإني لا أبالي بآلهتكم; لاعتمادي على حفظ الله وحده.
والذين تدعون -أنتم أيها المشركون- مِن غير الله من الآلهة لا يستطيعون نصركم, ولا يقدرون على نصرة أنفسهم.
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)
وإن تدعوا -أيها المشركون- آلهتكم إلى الاستقامة والسداد لا يسمعوا دعاءكم, وترى -أيها الرسول- آلهة هؤلاء المشركين مِن عبدة الأوثان يقابلونك كالناظر إليك وهم لا يبصرون; لأنهم لا أبصار لهم ولا بصائر.
اقْبَلْ -أيها النبي أنت وأمتك- الفضل من أخلاق الناس وأعمالهم, ولا تطلب منهم ما يشق عليهم حتى لا ينفروا, وأْمر بكل قول حسن وفِعْلٍ جميل, وأعرض عن منازعة السفهاء ومساواة الجهلة الأغبياء.
وإما يصيبنَّك -أيها النبي- من الشيطان غضب أو تُحِس منه بوسوسة وتثبيط عن الخير أو حث على الشرِّ, فالجأ إلى الله مستعيذًا به, إنه سميع لكل قول, عليم بكل فعل.
إن الذين اتقوا الله مِن خلقه, فخافوا عقابه بأداء فرائضه واجتناب نواهيه, إذا أصابهم عارض من وسوسة الشيطان تذكَّروا ما أوجب الله عليهم من طاعته, والتوبة إليه, فإذا هم منتهون عن معصية الله على بصيرة, آخذون بأمر الله, عاصون للشيطان.
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)
وإخوان الشياطين, وهم الفجَّار من ضلال الإنس تمدهم الشياطين من الجن في الضلالة والغَواية, ولا تدَّخر شياطين الجن وُسْعًا في مدِّهم شياطين الإنس في الغيِّ, ولا تدَّخر شياطين الإنس وُسْعًا في عمل ما توحي به شياطين الجن.
وإذا لم تجئ -أيها الرسول- هؤلاء المشركين بآية قالوا: هلا أحدَثْتها واختلقتها من عند نفسك, قل لهم -أيها الرسول- : إن هذا ليس لي, ولا يجوز لي فِعْله; لأن الله إنما أمرني باتباع ما يوحى إليَّ من عنده, وهو هذا القرآن الذي أتلوه عليكم حججًا وبراهين من ربكم, وبيانًا يهدي المؤمنين إلى الطريق المستقيم, ورحمة يرحم الله بها عباده المؤمنين.
واذكر -أيها الرسول- ربك في نفسك تخشعًا وتواضعًا لله خائفًا وجل القلب منه، وادعه متوسطًا بين الجهر والمخافتة في أول النهار وآخره, ولا تكن من الذين يَغْفُلون عن ذكر الله, ويلهون عنه في سائر أوقاتهم.
إن الذين عند ربك من الملائكة لا يستكبرون عن عبادة الله, بل ينقادون لأوامره, ويسبحونه بالليل والنهار, وينزهونه عما لا يليق به, وله وحده لا شريك له يسجدون.
يسألك أصحابك -أيها النبي- عن الغنائم يوم "بدر" كيف تقسمها بينهم؟ قل لهم: إنَّ أمرها إلى الله ورسوله, فالرسول يتولى قسمتها بأمر ربه, فاتقوا عقاب الله ولا تُقَدموا على معصيته, واتركوا المنازعة والمخاصمة بسبب هذه الأموال, وأصلحوا الحال بينكم, والتزموا طاعة الله ورسوله إن كنتم مؤمنين; فإن الإيمان يدعو إلى طاعة الله ورسوله.
إنما المؤمنون بالله حقًا هم الذين إذا ذُكِر الله فزعت قلوبهم, وإذا تليت عليهم آيات القرآن زادتهم إيمانًا مع إيمانهم, لتدبرهم لمعانيه وعلى الله تعالى يتوكلون, فلا يرجون غيره, ولا يرهبون سواه.
كما أنكم لما اختلفتم في المغانم فانتزعها الله منكم, وجعلها إلى قَسْمه وقَسْم رسوله صلى الله عليه وسلم, كذلك أمرك ربك -أيها النبي- بالخروج من "المدينة" للقاء عِيْر قريش, وذلك بالوحي الذي أتاك به جبريل مع كراهة فريق من المؤمنين للخروج.
وما جعل الله ذلك الإمداد إلا بشارة لكم بالنصر, ولتسكن به قلوبكم, وتوقنوا بنصر الله لكم, وما النصر إلا من عند الله, لا بشدة بأسكم وقواكم. إن الله عزيز في ملكه, حكيم في تدبيره وشرعه.
إذ يُلْقي الله عليكم النعاس أمانًا منه لكم من خوف عدوكم أن يغلبكم, وينزل عليكم من السحاب ماء طهورًا, ليطهركم به من الأحداث الظاهرة, ويزيل عنكم في الباطن وساوس الشيطان وخواطره, وليشدَّ على قلوبكم بالصبر عند القتال, ويثبت به أقدام المؤمنين بتلبيد الأرض الرملية بالمطر حتى لا تنزلق فيها الأقدام.
إذ يوحي ربك -أيها النبي- إلى الملائكة الذين أمدَّ الله بهم المسلمين في غزوة "بدر" أني معكم أُعينكم وأنصركم, فقوُّوا عزائم الذين آمنوا, سألقي في قلوب الذين كفروا الخوف الشديد والذلة والصَّغَار, فاضربوا -أيها المؤمنون- رؤوس الكفار, واضربوا منهم كل طرف ومِفْصل.
ذلك الذي حدث للكفار من ضَرْب رؤوسهم وأعناقهم وأطرافهم; بسبب مخالفتهم لأمر الله ورسوله, ومَن يخالف أمر الله ورسوله, فإن الله شديد العقاب له في الدنيا والآخرة.
يا أيها الذين صَدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إذا قابلتم الذين كفروا في القتال متقاربين منكم فلا تُوَلُّوهم ظهوركم, فتنهزموا عنهم, ولكن اثبتوا لهم, فإن الله معكم وناصركم عليهم.
ومن يُوَلِّهم منكم ظهره وقت الزحف إلا منعطفًا لمكيدة الكفار أو منحازًا إلى جماعة المسلمين حاضري الحرب حيث كانوا, فقد استحق الغضب من الله, ومقامه جهنم, وبئس المصير والمنقلب.
فلم تقتلوا -أيها المؤمنون- المشركين يوم "بدر", ولكن الله قتلهم, حيث أعانكم على ذلك, وما رميت حين رميت -أيها النبي- ولكن الله رمى, حيث أوصل الرمية التي رميتها إلى وجوه المشركين; وليختبر المؤمنين بالله ورسوله ويوصلهم بالجهاد إلى أعلى الدرجات, ويعرِّفهم نعمته عليهم, فيشكروا له سبحانه على ذلك. إن الله سميع لدعائكم وأقوالكم ما أسررتم به وما أعلنتم, عليم بما فيه صلاح عباده.
هذا الفعل مِن قتل المشركين ورميهم حين انهزموا, والبلاء الحسن بنصر المؤمنين على أعدائهم, هو من الله للمؤمنين, وأن الله -فيما يُسْتقبل- مُضعِف ومُبطِل مكر الكافرين حتى يَذِلُّوا وينقادوا للحق أو يهلكوا.
إن تطلبوا -أيها الكفار- من الله أن يوقع بأسه وعذابه على المعتدين الظالمين فقد أجاب الله طلبكم, حين أوقع بكم مِن عقابه ما كان نكالا لكم وعبرة للمتقين, فإن تنتهوا -أيها الكفار- عن الكفر بالله ورسوله وقتال نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, فهو خير لكم في دنياكم وأخراكم, وإن تعودوا إلى الحرب وقتال محمد صلى الله عليه وسلم وقتال أتباعه المؤمنين نَعُدْ بهزيمتكم كما هُزمتم يوم "بدر", ولن تغني عنكم جماعتكم شيئًا, كما لم تغن عنكم يوم "بدر" مع كثرة عددكم وعتادكم وقلة عدد المؤمنين وعدتهم, وأن الله مع المؤمنين بتأييده ونصره.
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله أطيعوا الله ورسوله فيما أمركم به ونهاكم عنه, ولا تتركوا طاعة الله وطاعة رسوله, وأنتم تسمعون ما يتلى عليكم في القرآن من الحجج والبراهين.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21)
ولا تكونوا أيها المؤمنون في مخالفة الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كالمشركين والمنافقين الذين إذا سمعوا كتاب الله يتلى عليهم قالوا: سمعنا بآذاننا, وهم في الحقيقة لا يتدبرون ما سمعوا, ولا يفكرون فيه.
إنَّ شر ما دبَّ على الأرض -مِنْ خَلْق الله- عند الله الصمُّ الذين انسدَّت آذانهم عن سماع الحق فلا يسمعون, البكم الذين خرست ألسنتهم عن النطق به فلا ينطقون, هؤلاء هم الذين لا يعقلون عن الله أمره ونهيه.
ولو علم الله في هؤلاء خيرًا لأسمعهم مواعظ القرآن وعبره حتى يعقلوا عن الله عز وجل حججه وبراهينه, ولكنه علم أنه لا خير فيهم وأنهم لا يؤمنون, ولو أسمعهم -على الفرض والتقدير- لتولَّوا عن الإيمان قصدًا وعنادًا بعد فهمهم له, وهم معرضون عنه, لا التفات لهم إلى الحق بوجه من الوجوه.
يا أيها الذين صدِّقوا بالله ربًا وبمحمد نبيًا ورسولا استجيبوا لله وللرسول بالطاعة إذا دعاكم لما يحييكم من الحق, ففي الاستجابة إصلاح حياتكم في الدنيا والآخرة, واعلموا -أيها المؤمنون- أن الله تعالى هو المتصرف في جميع الأشياء, والقادر على أن يحول بين الإنسان وما يشتهيه قلبه, فهو سبحانه الذي ينبغي أن يستجاب له إذا دعاكم; إذ بيده ملكوت كل شيء, واعلموا أنكم تُجمعون ليوم لا ريب فيه, فيجازي كلا بما يستحق.
واحذروا -أيها المؤمنون- اختبارًا ومحنة يُعَمُّ بها المسيء وغيره لا يُخَص بها أهل المعاعي ولا مَن باشر الذنب, بل تصيب الصالحين معهم إذا قدروا على إنكار الظلم ولم ينكروه, واعلموا أن الله شديد العقاب لمن خالف أمره ونهيه.
واذكروا أيها المؤمنون نِعَم الله عليكم إذ أنتم بـ"مكة" قليلو العدد مقهورون, تخافون أن يأخذكم الكفار بسرعة, فجعل لكم مأوى تأوون إليه وهو "المدينة", وقوَّاكم بنصره عليهم يوم "بدر", وأطعمكم من الطيبات -التي من جملتها الغنائم-; لكي تشكروا له على ما رزقكم وأنعم به عليكم.
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تخونوا الله ورسوله بترك ما أوجبه الله عليكم وفِعْل ما نهاكم عنه, ولا تفرطوا فيما ائتمنكم الله عليه, وأنتم تعلمون أنه أمانة يجب الوفاء بها.
واعلموا -أيها المؤمنون- أن أموالكم التي استخلفكم الله فيها, وأولادكم الذين وهبهم الله لكم اختبار من الله وابتلاء لعباده; ليعلم أيشكرونه عليها ويطيعونه فيها, أو ينشغلون بها عنه؟ واعلموا أن الله عنده خير وثواب عظيم لمن اتقاه وأطاعه.
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه إن تتقوا الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه يجعل لكم فصلا بين الحق والباطل, ويَمحُ عنكم ما سلف من ذنوبكم ويسترها عليكم, فلا يؤاخذكم بها. والله ذو الفضل العظيم.
واذكر -أيها الرسول- حين يكيد لك مشركو قومك بـ"مكَّة"; ليحبسوك أو يقتلوك أو ينفوك من بلدك. ويكيدون لك, وردَّ الله مكرهم عليهم جزاء لهم, ويمكر الله, والله خير الماكرين.
وإذا تتلى على هؤلاء الذين كفروا بالله آيات القرآن العزيز قالوا جهلا منهم وعنادًا للحق: قد سمعنا هذا من قبل, لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن, ما هذا القرآن الذي تتلوه علينا -يا محمد- إلا أكاذيب الأولين.
وكيف لا يستحقُّون عذاب الله, وهم يصدون أولياءه المؤمنين عن الطواف بالكعبة والصلاة في المسجد الحرام؟ وما كانوا أولياء الله, إنْ أولياء الله إلا الذين يتقونه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه, ولكن أكثر الكفار لا يعلمون; فلذلك ادَّعوا لأنفسهم أمرًا, غيرهم أولى به.
وما كان صلاتهم عند المسجد الحرام إلا صفيرًا وتصفيقًا. فذوقوا عذاب القتل والأسر يوم "بدر" ; بسبب جحودكم وأفعالكم التي لا يُقْدم عليها إلا الكفرة, الجاحدون توحيد ربهم ورسالة نبيهم.
إن الذين جحدوا وحدانية الله وعصوا رسوله ينفقون أموالهم فيعطونها أمثالهم من المشركين وأهل الضلال, ليصدوا عن سبيل الله ويمنعوا المؤمنين عن الإيمان بالله ورسوله, فينفقون أموالهم في ذلك, ثم تكون عاقبة نفقتهم تلك ندامة وحسرة عليهم; لأن أموالهم تذهب, ولا يظفرون بما يأمُلون مِن إطفاء نور الله والصد عن سبيله, ثم يهزمهم المؤمنون آخر الأمر. والذين كفروا إلى جهنم يحشرون فيعذبون فيها.
يحشر الله ويخزي هؤلاء الذين كفروا بربهم, وأنفقوا أموالهم لمنع الناس عن الإيمان بالله والصد عن سبيله; ليميز الله تعالى الخبيث من الطيب, ويجعل الله المال الحرام الذي أُنفق للصدِّ عن دين الله بعضه فوق بعض متراكمًا متراكبًا, فيجعله في نار جهنم, هؤلاء الكفار هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
قل -أيها الرسول- للذين جحدوا وحدانية الله مِن مشركي قومك: إن ينزجروا عن الكفر وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم, ويرجعوا إلى الإيمان بالله وحده وعدم قتال الرسول والمؤمنين, يغفر الله لهم ما سبق من الذنوب, فالإسلام يجُبُّ ما قبله. وإن يَعُدْ هؤلاء المشركون لقتالك -أيها الرسول- بعد الوقعة التي أوقعتها بهم يوم "بدر" فقد سبقت طريقة الأولين, وهي أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أننا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة.
وقاتلوا -أيها المؤمنون- المشركين حتى لا يكون شِرْكٌ وصدٌّ عن سبيل الله; ولا يُعْبَدَ إلا الله وحده لا شريك له, فيرتفع البلاء عن عباد الله في الأرض, وحتى يكون الدين والطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره, فإن انزجروا عن قتنة المؤمنين وعن الشرك بالله وصاروا إلى الدين الحق معكم, فإن الله لا يخفى عليه ما يعملون مِن ترك الكفر والدخول في الإسلام.
وإن أعرض هؤلاء المشركون عمَّا دعوتموهم إليه -أيها المؤمنون- من الإيمان بالله ورسوله وترك قتالكم, وأبَوْا إلا الإصرار على الكفر وقتالكم, فأيقِنوا أن الله معينكم وناصركم عليهم. نِعْمَ المعين والناصر لكم ولأوليائه على أعدائكم.
واعلموا -أيها المؤمنون- أن ما ظَفِرتم به مِن عدوكم بالجهاد في سبيل الله فأربعة أخماسه للمقاتلين الذين حضروا المعركة, والخمس الباقي يجزَّأُ خمسة أقسام: الأول لله وللرسول, فيجعل في مصالح المسلمين العامة, والثاني لذوي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهم بنو هاشم وبنو المطلب, جُعِل لهم الخمس مكان الصدقة فإنها لا تحلُّ لهم, والثالث لليتامى, والرابع للمساكين, والخامس للمسافر الذي انقطعت به النفقة, إن كنتم مقرِّين بتوحيد الله مطيعين له, مؤمنين بما أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات والمدد والنصر يوم فَرَق بين الحق والباطل بـ"بدر", يوم التقى جَمْعُ المؤمنين وجَمْعُ المشركين. والله على كل شيء قدير لا يعجزه شيء.
واذكروا حينما كنتم على جانب الوادي الأقرب إلى "المدينة", وعدوكم نازل بجانب الوادي الأقصى, وعِير التجارة في مكان أسفل منكم إلى ساحل "البحر الأحمر", ولو حاولتم أن تضعوا موعدًا لهذا اللقاء لاختلفتم, ولكنَّ الله جمعكم على غير ميعاد; ليقضي أمرًا كان مفعولا بنصر أوليائه, وخِذْلان أعدائه بالقتل والأسر; وذلك ليهلك من هلك منهم عن حجة لله ثبتت له فعاينها وقطعت عذره, وليحيا مَن حيَّ عن حجة لله قد ثبتت وظهرت له. وإن الله لسميع لأقوال الفريقين, لا يخفى عليه شيء, عليم بنيَّاتهم.
واذكر -أيها النبي- حينما أراك الله قلة عدد عدوك في منامك, فأخبرت المؤمنين بذلك, فقوِيت قلوبهم, واجترؤوا على حربهم, ولو أراك ربك كثرة عددهم لتردد أصحابك في ملاقاتهم, وجَبُنتم واختلفتم في أمر القتال, ولكن الله سلَّم من الفشل, ونجَّى من عاقبة ذلك. إنه عليم بخفايا القلوب وطبائع النفوس.
واذكر أيضًا حينما برز الأعداء إلى أرض المعركة فرأيتموهم قليلا فاجترأتم عليهم, وقلَّلكم في أعينهم, ليتركوا الاستعداد لحربكم; ليقضي الله أمرًا كان مفعولا فيتحقق وَعْدُ الله لكم بالنصر والغلبة, فكانت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى. وإلى الله مصير الأمور كلها, فيجازي كلا بما يستحق.
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إذا لقيتم جماعة من أهل الكفر قد استعدوا لقتالكم, فاثبتوا ولا تنهزموا عنهم, واذكروا الله كثيرًا داعين مبتهلين لإنزال النصر عليكم والظَّفَر بعدوكم; لكي تفوزوا.
والتزموا طاعة الله وطاعة رسوله في كل أحوالكم, ولا تختلفوا فتتفرق كلمتكم وتختلف قلوبكم, فتضعفوا وتذهب قوتكم ونصركم, واصبروا عند لقاه العدو. إن الله مع الصابرين بالعون والنصر والتأييد, ولن يخذلهم.
واذكروا حين حسَّن الشيطان للمشركين ما جاؤوا له وما همُّوا به, وقال لهم: لن يغلبكم أحد اليوم, فإني ناصركم, فلما تقابل الفريقان: المشركون ومعهم الشيطان, والمسلمون ومعهم الملائكة, رجع الشيطان مُدْبرًا, وقال للمشركين: إني بريء منكم, إني أرى ما لا ترون من الملائكة الذين جاؤوا مددًا للمسلمين, إني أخاف الله, فخذلهم وتبرأ منهم. والله شديد العقاب لمن عصاه ولم يتب توبة نصوحًا.
واذكروا حين يقول أهل الشرك والنفاق ومرضى القلوب, وهم يرون قلة المسلمين وكثرة عدوهم: غرَّ هؤلاء المسلمين دينُهم, فأوردهم هذه الموارد, ولم يدرك هؤلاء المنافقون أنه من يتوكل على الله ويثق بوعده فإن الله لن يخذله, فإن الله عزيز لا يعجزه شيء, حكيم في تدبيره وصنعه.
ولو تعاين -أيها الرسول- حال قبض الملائكة أرواح الكفار وانتزاعها, وهم يضربون وجوههم في حال إقبالهم, ويضربون ظهورهم في حال فرارهم, ويقولون لهم: ذوقوا العذاب المحرق, لرأيت أمرًا عظيمًا، وهذا السياق وإن كان سببه وقعة "بدر" ، ولكنه عام في حق كلِّ كافر.
إنَّ ما نزل بالمشركين يومئذ سُنَّة الله في عقاب الطغاة من الأمم السابقة من أمثال فرعون والسابقين له, عندما كذَّبوا رسل الله وجحدوا آياته, فإن الله أنزل بهم عقابه بسبب ذنوبهم. إن الله قوي لا يُقْهر, شديد العقاب لمن عصاه ولم يتب من ذنبه.
ذلك الجزاء السيِّئ بأن الله إذا أنعم على قوم نعمة لم يسلبها منهم حتى يغيِّروا حالهم الطيبة إلى حال سيئة, وأن الله سميع لأقوال خلقه, عليم بأحوالهم، فيجري عليهم ما اقتضاه علمه ومشيئته.
شأن هؤلاء الكافرين في ذلك كشأن آل فرعون الذين كذبوا موسى, وشأن الذين كذبوا رسلهم من الأمم السابقة فأهلكهم الله بسبب ذنوبهم, وأغرق آل فرعون في البحر, وكل منهم كان فاعلا ما لم يكن له فِعْلُه من تكذيبهم رسل الله وجحودهم آياته, وإشراكهم في العبادة غيره.
فإن واجهت هؤلاء الناقضين للعهود والمواثيق في المعركة, فأنزِلْ بهم من العذاب ما يُدْخل الرعب في قلوب الآخرين, ويشتت جموعهم; لعلهم يذّكرون, فلا يجترئون على مثل الذي أقدم عليه السابقون.
وإن خفت -أيها الرسول- من قومٍ خيانة ظهرت بوادرها فألق إليهم عهدهم, كي يكون الطرفان مستويين في العلم بأنه لا عهد بعد اليوم. إن الله لا يحب الخائنين في عهودهم الناقضين للعهد والميثاق.
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59)
ولا يظنن الذين جحدوا آيات الله أنهم فاتوا ونجَوْا, وأن الله لا يقدر عليهم, إنهم لن يُفْلِتوا من عذاب الله.
وأعدُّوا - يا معشر المسلمين - لمواجهة أعدائكم كل ما تقدرون عليه مِن عدد وعدة, لتُدْخلوا بذلك الرهبة في قلوب أعداء الله وأعدائكم المتربصين بكم, وتخيفوا آخرين لا تظهر لكم عداوتهم الآن, لكن الله يعلمهم ويعلم ما يضمرونه. وما تبذلوا من مال وغيره في سبيل الله قليلا أو كثيرًا يخلفه الله عليكم في الدنيا, ويدخر لكم ثوابه إلى يوم القيامة, وأنتم لا تُنْقصون من أجر ذلك شيئًا.
وإن أراد الذين عاهدوك المكر بك فإن الله سيكفيك خداعهم; إنه هو الذي أنزل عليك نصره وقوَّاك بالمؤمنين من المهاجرين والأنصار, وجَمَع بين قلوبهم بعد التفرق, لو أنفقت مال الدنيا على جمع قلوبهم ما استطعت إلى ذلك سبيلا ولكن الله جمع بينها على الإيمان فأصبحوا إخوانًا متحابين, إنه عزيز في مُلْكه, حكيم في أمره وتدبيره.
يا أيها النبي حُثَّ المؤمنين بك على القتال, إن يكن منكم عشرون صابرون عند لقاء العدو يغلبوا مائتين منهم, فإن يكن منكم مائة مجاهدة صابرة يغلبوا ألفًا من الكفار; لأنهم قوم لا عِلْم ولا فهم عندهم لما أعدَّ الله للمجاهدين في سبيله, فهم يقاتلون من أجل العلو في الأرض والفساد فيها.
الآن خفف الله عنكم أيها المؤمنون لما فيكم من الضعف, فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين من الكافرين, وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين منهم بإذن الله تعالى. والله مع الصابرين بتأييده ونصره.
لا ينبغي لنبي أن يكون له أسرى مِن أعدائه حتى يبالغ في القتل; لإدخال الرعب في قلوبهم ويوطد دعائم الدين, تريدون -يا معشر المسلمين- بأخذكم الفداء من أسرى "بدر" متاع الدنيا, والله يريد إظهار دينه الذي به تدرك الآخرة. والله عزيز لا يُقْهر, حكيم في شرعه.
يا أيها النبي قل لمن أسرتموهم في "بدر": لا تأسوا على الفداء الذي أخذ منكم, إن يعلم الله تعالى في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرًا مما أُخذ منكم من المال بأن يُيَسِّر لكم من فضله خيرًا كثيرًا -وقد أنجز الله وعده للعباس رضي الله عنه وغيره-, ويغفر لكم ذنوبكم. والله سبحانه غفور لذنوب عباده إذا تابوا, رحيم بهم.
وإن يرد الذين أَطْلَقْتَ صراحهم -أيها النبي- من الأسرى الغدر بك مرة أخرى فلا تَيْئسْ, فقد خانوا الله من قبل وحاربوك, فنصرك الله عليهم. والله عليم بما تنطوي عليه الصدور, حكيم في تدبير شؤون عباده.
إن الذين صدَّقوا الله, ورسوله وعملوا بشرعه, وهاجروا إلى دار الإسلام, أو بلد يتمكنون فيه من عبادة ربهم، وجاهدوا في سبيل الله بالمال والنفس, والذين أنزلوا المهاجرين في دورهم, وواسوهم بأموالهم, ونصروا دين الله, أولئك بعضهم نصراء بعض. أما الذين آمنوا ولم يهاجروا من دار الكفر فلستم مكلفين بحمايتهم ونصرتهم حتى يهاجروا, وإن وقع عليهم ظلم من الكفار فطلبوا نصرتكم فاستجيبوا لهم, إلا على قوم بينكم وبينهم عهد مؤكد لم ينقضوه. والله بصير بأعمالكم, بجزي كلا على قدر نيته وعمله.
والذين كفروا بعضهم نصراء بعض, وإن لم تكونوا -أيها المؤمنون- نصراء بعض تكن في الأرض فتنة للمؤمنين عن دين الله, وفساد عريض بالصد عن سبيل الله وتقوية دعائم الكفر.
والذين آمنوا بالله ورسوله, وتركوا ديارهم قاصدين دار الإسلام أو بلدًا يتمكنون فيه من عبادة ربهم, وجاهدوا لإعلاء كلمة الله, والذين نصروا إخوانهم المهاجرين وآووهم وواسوهم بالمال والتأييد, أولئك هم المؤمنون الصادقون حقًا, لهم مغفرة لذنوبهم, ورزق كريم واسع في جنات النعيم.
والذين آمنوا مِن بعد هؤلاء المهاجرين والأنصار, وهاجروا وجاهدوا معكم في سبيل الله, فأولئك منكم -أيها المؤمنون- لهم ما لكم وعليهم ما عليكم, وأولو القرابة بعضهم أولى ببعض في التوارث في حكم الله من عامة المسلمين. إن الله بكل شيء عليم يعلم ما يصلح عباده مِن توريث بعضهم من بعض في القرابة والنسب دون التوارث بالحِلْف, وغير ذلك مما كان في أول الإسلام.
فسيروا -أيها المشركون- في الأرض مدَّة أربعة أشهر, تذهبون حيث شئتم آمنين من المؤمنين, واعلموا أنكم لن تُفْلِتوا من العقوبة, وأن الله مذل الكافرين ومورثهم العار في الدنيا, والنار في الآخرة. وهذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة, أو من له عهد دون أربعة أشهر, فيكمَّل له أربعة أشهر، أو مَن كان له عهد فنقضه.
وإعلام من الله ورسوله وإنذار إلى الناس يوم النحر أن الله بريء من المشركين, ورسوله بريء منهم كذلك. فإن رجعتم -أيها المشركون- إلى الحق وتركتم شرككم فهو خير لكم, وإن أعرضتم عن قَبول الحق وأبيتم الدخول في دين الله فاعلموا أنكم لن تُفْلِتوا من عذاب الله. وأنذر -أيها الرسول- هؤلاء المعرضين عن الإسلام عذاب الله الموجع.
ويُستثنى من الحكم السابق المشركون الذين دخلوا معكم في عهد محدد بمدة, ولم يخونوا العهد, ولم يعاونوا عليكم أحدا من الأعداء, فأكملوا لهم عهدهم إلى نهايته المحدودة. إن الله يحب المتقين الذين أدَّوا ما أمروا به, واتقوا الشرك والخيانة, وغير ذلك من المعاصي.
فإذا انقضت الأشهر الأربعة التي أمَّنتم فيها المشركين, فأعلنوا الحرب على أعداء الله حيث كانوا, واقصدوهم بالحصار في معاقلهم, وترصدوا لهم في طرقهم, فإن رجعوا عن كفرهم ودخلوا الإسلام والتزموا شرائعه من إقام الصلاة وإخراج الزكاة, فاتركوهم, فقد أصبحوا إخوانكم في الإسلام, إن الله غفور لمن تاب وأناب, رحيم بهم.
وإذا طلب أحد من المشركين الذين استبيحت دماؤهم وأموالهم الدخول في جوارك -أيها الرسول- ورغب في الأمان, فأجبه إلى طلبه حتى يسمع القرآن الكريم ويطَّلع على هدايته, ثم أَعِدْه من حيث أتى آمنًا; وذلك لإقامة الحجة عليه; ذلك بسبب أن الكفار قوم جاهلون بحقائق الإسلام, فربما اختاروه إذا زال الجهل عنهم.
لا ينبغي أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله, إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام في صلح (الحديبية) فما أقاموا على الوفاء بعهدكم فأقيموا لهم على مثل ذلك. إن الله يحب المتقين الموفِّين بعهودهم.
إن شأن المشركين أن يلتزموا بالعهود ما دامت الغلبة لغيرهم, أما إذا شعروا بالقوة على المؤمنين فإنهم لا يراعون القرابة ولا العهد, فلا يغرنكم منهم ما يعاملونكم به وقت الخوف منكم, فإنهم يقولون لكم كلامًا بألسنتهم; لترضوا عنهم, ولكن قلوبهم تأبى ذلك, وأكثرهم متمردون على الإسلام ناقضون للعهد.
فإن أقلعوا عن عبادة غير الله, ونطقوا بكلمة التوحيد, والتزموا شرائع الإسلام من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة, فإنهم إخوانكم في الإسلام. ونبين الآيات, ونوضحها لقوم ينتفعون بها.
وإنْ نَقَضَ هؤلاء المشركون العهود التي أبرمتموها معهم, وأظهروا الطعن في دين الإسلام, فقاتلوهم فإنهم رؤساء الضلال, لا عهد لهم ولا ذمة, حتى ينتهوا عن كفرهم وعداوتهم للإسلام.
لا تترددوا في قتال هؤلاء القوم الذين نقضوا عهودهم, وعملوا على إخراج الرسول من (مكة), وهم الذين بدؤوا بإيذائكم أول الأمر, أتخافونهم أو تخافون ملاقاتهم في الحرب؟ فالله أحق أن تخافوه إن كنتم مؤمنين حقًا.
يا معشر المؤمنين قاتلوا أعداء الله يعذبهم عز وجل بأيديكم, ويذلهم بالهزيمة والخزي, وينصركم عليهم, ويُعْلِ كلمته, ويشف بهزيمتهم صدوركم التي طالما لحق بها الحزن والغم من كيد هؤلاء المشركين, ويُذْهِب عن قلوب المؤمنين الغيظ. ومن تاب من هؤلاء المعاندين فإن الله يتوب على من يشاء. والله عليم بصدق توبة التائب, حكيم في تدبيره وصنعه ووَضْع تشريعاته لعباده.
مِن سنة الله الابتلاء, فلا تظنوا يا معشر المؤمنين أن يترككم الله دون اختبار; ليعلم الله علمًا ظاهرًا للخلق الذين أخلصوا في جهادهم, ولم يتخذوا غير الله ورسوله والمؤمنين بطانة وأولياء. والله خبير بجميع أعمالكم ومجازيكم بها.
لا يعتني ببيوت الله ويعمرها إلا الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر, ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة, ولا يخافون في الله لومة لائم, هؤلاء العُمَّار هم المهتدون إلى الحق.
أجعلتم -أيها القوم- ما تقومون به من سقي الحجيج وعِمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله؟ لا تتساوى حال المؤمنين وحال الكافرين عند الله, لأن الله لا يقبل عملا بغير الإيمان. والله سبحانه لا يوفق لأعمال الخير القوم الظالمين لأنفسهم بالكفر.
الذين آمنوا بالله وتركوا دار الكفر قاصدين دار الإسلام, وبذلوا أموالهم وأنفسهم في الجهاد لإعلاء كلمة الله, هؤلاء أعظم درجه عند الله, وأولئك هم الفائزون برضوانه.
ماكثين في تلك الجنان لا نهاية لإقامتهم وتنعمهم, وذلك ثواب ما قدَّموه من الطاعات والعمل الصالح في حياتهم الدنيا. إن الله تعالى عنده أجر عظيم لمن آمن وعمل صالحا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تتخذوا أقرباءكم -من الآباء والإخوان وغيرهم- أولياء, تفشون إليهم أسرار المسلمين, وتستشيرونهم في أموركم, ما داموا على الكفر معادين للإسلام. ومن يتخذهم أولياء ويُلْقِ إليهم المودة فقد عصى الله تعالى, وظلم نفسه ظلمًا عظيمًا.
قل -يا أيها الرسول- للمؤمنين: إن فَضَّلتم الآباء والأبناء والإخوان والزوجات والقرابات والأموال التي جمعتموها والتجارة التي تخافون عدم رواجها والبيوت الفارهة التي أقمتم فيها, إن فَضَّلتم ذلك على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله فانتظروا عقاب الله ونكاله بكم. والله لا يوفق الخارجين عن طاعته.
لقد أنزل الله نَصْرَه عليكم في مواقع كثيرة عندما أخذتم بالأسباب وتوكلتم على الله. ويوم غزوة (حنين) قلتم: لن نُغْلَبَ اليوم من قلة, فغرَّتكم الكثرة فلم تنفعكم, وظهر عليكم العدو فلم تجدوا ملجأً في الأرض الواسعة ففررتم منهزمين.
ثم أنزل الله الطمأنينة على رسوله وعلى المؤمنين فثبتوا, وأمدَّهم بجنود من الملائكة لم يروها, فنصرهم على عدوهم, وعذَّب الذين كفروا. وتلك عقوبة الله للصادِّين عن دينه, المكذِّبين لرسوله.
يا معشر المؤمنين إنما المشركون رِجْس وخَبَث فلا تمكنوهم من الاقتراب من الحرم بعد هذا العام التاسع من الهجرة, وإن خفتم فقرًا لانقطاع غارتهم عنكم, فإن الله سيعوضكم عنها, ويكفيكم من فضله إن شاء, إن الله عليم بحالكم, حكيم في تدبير شؤونكم.
أيها المسلمون قاتلوا الكفار الذين لا يؤمنون بالله, ولا يؤمنون بالبعث والجزاء, ولا يجتنبون ما نهى الله عنه ورسوله, ولا يلتزمون أحكام شريعة الإسلام من اليهود والنصارى, حتى يدفعوا الجزية التي تفرضونها عليهم بأيديهم خاضعين أذلاء.
لقد أشرك اليهود بالله عندما زعموا أن عزيرًا ابن الله. وأشرك النصارى بالله عندما ادَّعوا أن المسيح ابن الله. وهذا القول اختلقوه من عند أنفسهم, وهم بذلك لا يشابهون قول المشركين من قبلهم. قَاتَلَ الله المشركين جميعًا كيف يعدلون عن الحق إلى الباطل؟
اتخذ اليهودُ والنصارى العلماءَ والعُبَّادَ أربابًا يُشَرِّعون لهم الأحكام, فيلتزمون بها ويتركون شرائع الله, واتخذوا المسيح عيسى ابن مريم إلهًا فعبدوه, وقد أمرهم الله بعبادته وحده دون غيره، فهو الإله الحق لا إله إلا هو. تنزَّه وتقدَّس عما يفتريه أهل الشرك والضلال.
يريد الكفار بتكذيبهم أن يبطلوا دين الإسلام, ويبطلوا حجج الله وبراهينه على توحيده الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم, ويأبى الله إلا أن يتم دينه ويظهره, ويعلي كلمته, ولو كره ذلك الجاحدون.
يا أيها الذين صَدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه, إن كثيرًا من علماء أهل الكتاب وعُبَّادهم ليأخذون أموال الناس بغير حق كالرشوة وغيرها, ويمنعون الناس من الدخول في الإسلام, ويصدون عن سبيل الله. والذين يمسكون الأموال, ولا يؤدون زكاتها, ولا يُخْرجون منها الحقوق الواجبة, فبشِّرهم بعذاب موجع.
يوم القيامة توضع قطع الذهب والفضة في النار, فإذا اشتدت حرارتها أُحرقت بها جباه أصحابها وجنوبهم وظهورهم. وقيل لهم توبيخًا: هذا مالكم الذي أمسكتموه ومنعتم منه حقوق الله, فذوقوا العذاب الموجع; بسبب كنزكم وإمساككم.
إنّ عدة الشهور في حكم الله وفيما كُتب في اللوح المحفوظ اثنا عشر شهرًا, يوم خلق السموات والأرض, منها أربعة حُرُم; حرَّم الله فيهنَّ القتال (هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب) ذلك هو الدين المستقيم, فلا تظلموا فيهن أنفسكم; لزيادة تحريمها, وكون الظلم فيها أشد منه في غيرها, لا أنَّ الظلم في غيرها جائز. وقاتلوا المشركين جميعًا كما يقاتلونكم جميعًا, واعلموا أن الله مع أهل التقوى بتأييده ونصره.