يسري حسين من لندن
الطبيب المصري د . عصام عبد الصمد , المقيم ببريطانيا أصدر كتاباً عن الفنانة الراحلة سعاد حسني , يسجل خلال صفحاته انطباعات ويوميات تتابع رحلة العلاج التي استمرت بلندن لأكثر من ثلاث سنوات , انتهت بهذا الرحيل الفاجع ونهاية حزينة للممثلة التي امتعت المصريين والعرب لأكثر من ثلاثين عاماً بالفن الجميل والأداء البديع والروح العاشقة للحياة والأمل .
كتاب < سعاد حسني بعيداً عن الوطن وذكريات وحكايات > مكتوب بلغة تنضح بالصدق وتهدف إلى تقديم شهادة عن سعاد حسني : الإنسانة أولاً قبل الفن والتمثيل والشهرة . ويعترف الكاتب , الطبيب , أنه لم يشاهد أفلام الممثلة الراحلة ولم يجلس أمام شاشات الفضائيات ليتابع أعمالها , التي امتدت إلى 83 فيلماً عبر رحلتها الفنية منذ أن اكتشفها الكاتب والشاعر الراحل عبد الرحمن الخميسي وقدمها في فيلم < حسن ونعيمة > أمام محرم فؤاد واخراج بركات في عام 1959 .
عندما إلتقى د . عصام عبد الصمد سعاد حسني في رحلة الغربة والعلاج بلندن , لم يجذبه بريق الفن , وإنما وهج المشاعر الإنسانية , حيث وجد نفسه أمام إنسانة ثرية بالمشاعر والنبض الإنساني , تبحث عن علاج لمتاعب الجسد وأمراض النفس . وكانت الفنانة تريد الهرب من شهرتها حيث تعيش بعيداً عن الأضواء للعلاج على أمل العودة مرة أخرى لوجه سندريلا الشاشة وقوامها وحيويتها , التي تجسدت خلال مسيرة طويلة على الشاشة . وكان الناس والصحافة تضغط لمعرفة ماذا جرى للنجمة الجميلة ؟ . وسعت الكاميرات لتسجيل الحالة الجديدة في زيادة الوزن وضياع بعض ملامح الوجه والمتاعب الصحية التي برزت وعكست نفسها على سمات سعاد حسني الفنانة .
اختلاف الصورة وتبدلها , كان وراء معاناة الفنانة , فهذا الشكل الجميل والحضور المدهش والحيوية الهائلة , كان من أسباب نجوميتها التي وصلت إلى أعلى مراحلها مع نجاح فيلم < خللي بالك من زوزو > فكرة المخرج الراحل حسن الإمام وقصة وأغاني لصلاح جاهين مع كلماته وألحان كمال الطويل . ظهر الفيلم عام 1972 وكانت مصر تبحث عن فكرة جديدة وتحاول الخروج من شرنقة هزيمة 1967 الدامية . جاء < خللي بالك من زوزو > ليتحدث عن أمل ما يبث روح جديدة جسدتها أغاني صلاح جاهين وألحان الطويل وأداء سعاد حسني البديع .
قصة الفيلم تحكي عن < زوزو > إبنة راقصة سابقة من شارع محمد علي , تدخل الجامعة وتدرس الفلسفة وتعشق وتعلن حبها لشاب من أسرة ثرية عريقة . وتتناقض الأوضاع الطبقية , غير أن الحب مع العلم يسجل الانتصار على التعصب القائم بالجامعة ويدين الفن , وعلى الأوضاع الاجتماعية التي ترفض لقاء حي الزمالك مع حي محمد علي الخاص بالفنانين . والفيلم على الرغم من بساطته , كان محطة مهمة في حياة سعاد حسني حيث تمثلت شخصية < زوزو > وأصبحت تستخدم الإسم دلالة عليها . وظلت حتى وفاتها بلندن تحمل اللقب , الذي منحه إياها صلاح جاهين وحسن الإمام على إيقاعات كمال الطويل .
وعلى الرغم من أن الفنانة مثلت أدواراً أعمق من شخصية < زوزو > إلا أن الدور الذي جعلها تمثل وتغني وتؤدي شخصية الممثلة الشاملة , انطبع على حياتها تماماً وأصبح من الصعب فصلها عنه , خصوصاً أمام رحلة المرض الشاقة وظروفها الصعبة .
كل أدوار سعاد حسني بعد مرحلة الأفلام الشبابية , كانت فيها الشخصية التي تعاني من تسلط , حتى فيلم < السفيرة عزيزة > كانت ضحية لشقيقها < عدلي كاسب > الذي كان يفرض هيمنته عليها ويبتز أموالها . أما فيلم < الكرنك > فكانت تعاني من التعذيب والقسوة تحت قبضة نظام شرس , حاصر الحريات وطاردها . وفيلم < القاهرة 30 > مثلت دور < إحسان > , التي تبيع نفسها في مصر ما قبل الثورة حيث الفساد والطمع والطبقية . وقد تأملت جميع أفلام سعاد حسني بعيداً عن الأخرى الكوميدية , فوجدت هذه الصورة , حتى فيلم < أين عقلي > إخراج عاطف سالم , كان يتحدث عن زوجة ضائعة مظلومة . وهي في < أهل القمة > تبحث عن مخرج لازمة اجتماعية . وفي فيلم الطريق أمام شادية كانت ضائعة وسلبية تحاول انقاذ رشدي أباظة من وهم البحث عن أب غير موجود . < خللي بالك من زوزو > كان الاختيار الذي دشن جمال الفن في تجسيد بعض أشواق الحياة . وهي تتحدث للطبيب الدكتور عصام عبد الصمد عن تأثير صلاح جاهين الجارف عليها , فهو بلور شخصية < زوزو > ومنحها كلمات جميلة جعلتها تترجم طموحها القديم بالغناء والتعبيرعن أغنية خفيفة تجد الصدى لدى الناس .
وكانت < زوزو > قوية وعنيدة تقاوم تخلف المجتمع , وتواجه بالجامعة من يشنون حملة على الفن ويعتبرونه ضلالاً لابد التكفير عن ارتكاب اثمه . والغريب أن الدعوة التي كانت خجولة في الفيلم , أصبحت موجة عاتية سادت المجتمع مع تراجعه الشديد عن منطلقات ليبرالية قديمة شهدتها عصور النهضة والانفتاح .
وقد طاردت سعاد حسني وهي بلندن , مجموعة من أنصار العداء للفن . ووجدت الفنانة أنه من التناقض وقد أدت دور < زوزو > المحبة للفن الخضوع لهذه الموجة وأصرت على عدم الهجوم على الفن أو التمثيل . وهي تدافع في أوراق يسجلها مؤلف الكتاب عن مسيرة الفن المصري الرائع . وتبدو كلمات سعاد حسني , تشكل الرد الصادق على حملة لا علاقة لها بالإيمان أو التقوى , وإنما تحاول استثمار هذا الاتجاه لصالح مال ونفوذ وأدوار جديدة لممثلات انحسرت عنهن أضواء الشهرة , فاتجهن نحو ساحة جديدة لتأكيد استمرارهن على شاشات الفضائيات وصفحات الجرائد ومحطات الإذاعة .
لقد رفضت سعاد حسني الخضوع لمطاردة هذه الحملة وأصرت على أن الفن جميل , وله دوره داخل المجتمع . أخذت الفنانة هذا الموقف وهي في أشد الحاجة إلى المال والدعم والمساندة . ولو كانت وافقت على الخروج من دائرة الفن والهجوم عليه , لتدفقت عليها الملايين .
صفحات كتاب د . عصام عبد الصمد ترسم ملامح الإنسانة , وهو في أيام معرفته الأولى بها يتعامل معها كمريضة ويكتشف كنز السمات البشرية من بساطة مع عمق وتأمل وعاطفة صادقة تجاه كل ما هو نبيل . ولأنها صادقة فهي تحب الضحك والفكاهة وسماع < النكتة > المصرية . ويكتب الطبيب صفحات غاية في الجمال عن جلسات حوار ممتع بهذه الفكاهة الإنسانية ومحبة الضحك الصافي النابع من القلب .
والإنسان يحب مشاركة الآخرين , عندما يكون سعيداً , أما لحظات الحزن والألم فهو يفضل البقاء مع النفس في ركن منعزل وبعيداً عن الآخر .
وأتصور أن سعاد حسني كانت حزينة للغاية , في عدم النجاح للوصول إلى شكل النجمة الجميلة , التي هي < زوزو > في أحلى صورة لها على الشاشة المصرية . هذا الفشل جعلها تشعر بالعجز , خصوصاً وأن الجسد كان يعاندها ولا يريد قبول الرجوع إلى الشكل الجميل الذي كان أيام الشباب والشهرة .
حالة سعاد حسني إنسانية محضة , اختلط فيها الحلم بالواقع والخيال بالظروف القاسية في عالم الغربة . وهي اختارت لندن , حيث لا يعرفها الناس , وكانت تهرب من الصحافة التي تبحث عن قصة مثيرة وعن الإنسانة التي كانت في الماضي سعاد حسني . ورفضت أن يلتقط لها الناس الصور , مهما كانت درجة الثقة بهم . ورحلت الفنانة وليس في أذهان الجميع سوى صورتها الجميلة في < اشاعة حب > و < البنات والصيف > و < حسن ونعيمة > .
وستظل الفنانة تنعم بحب الناس على الرغم من رحيلها الفاجع والمأساوي . وقد عبّر المعجبون بها عن تقدير بالغ ومحبة لها , كانت تحتاج الشعور بهذا الحب خلال أيام وحدتها القاسية في لندن .
يتحدث المؤلف بصراحة عن أيام سعاد حسني الأخيرة في بريطانيا . وهو يقدم الأوراق السعيدة أكثر من الحزينة , لكنه يعطي اشارات هنا وهناك تعبر عن لوعة وألم وحزن دفين , تعود لأيام الطفولة ورحلة الحياة في عالم الأضواء . ومن المؤكد أن الفنانة التي حققت كل هذه الشهرة لم تكن سعيدة , وجاء غياب صلاح جاهين ليدفعها نحو الإكتئاب , مما انعكس على أحوال الجسد .
وقد بدأت أحوال السينما المصرية تتغير , لذلك تعرض فيلمها < الدرجة الثالثة > لعدم الاقبال عليه وجاء < الراعي والنساء > في رحلة صعود نادية الجندي وموجة أفلامها . وقد ظهرت سعاد مع عادل إمام في < المشبوه > و < الحب في الزنزانة > لكن نجومية الفنان الكوميدي وضعتها في المكان الثاني وليس الأول . اما < خللي بالك من زوزو > فكانت هي كل شئ وحولها حسين فهمي وتحية كاريوكا وعباس فارس .
وقد حاولت الفنانة تكرار نجاح الفيلم في < أميرة حبي أنا > و < المتوحشة > لكن تجربة < زوزو > ظلت فريدة للغاية وعاشت معها حتى لحظاتها الأخيرة في لندن .
وقد بدأ المؤلف الاعجاب بالإنسانة , وانتهت القصة بهذا الموت الفاجع , وبدأت رحلة الاهتمام بسيرة الفنانة ومشوارها وأعمالها , حيث يذكر في الكتاب عدد أفلامها ويقدم الجدول الشامل من مسيرة طويلة من الظهور على شاشة السينما العربية .
ويحكي المؤلف عن أيامها الأخيرة بشكل صادق ويحاول نفي اختيار الموت , مع أنه يقدم شهادات طبية تشرح حالات الإكتئاب التي قد تنتهي بالانتحار في لحظة خاطفة . ورسم المؤلف اللقطة الأخيرة من قصة سعاد حسني , التي اختارت ترك شقتها والإقامة مع صديقة لها بسبب الأحوال المادية , حيث تم منع الإعانة الحكومية عنها ووجدت نفسها وحيدة وكان عليها السفر إلى القاهرة وهي لا تريد القيام بهذه الخطوة مع استمرار مرضها وزيادة وزنها وتغير ملامحها . لقد كانت العودة في ظل هذا الوضع هي الكابوس نفسه .ووجدت الفنانة نفسها في حالة حصار وفي لحظة قررت الخروج من الجسد والأزمة . لقد فقدت الأمل وروح < زوزو > المتحدية حيث تكالبت عليها عوامل الخنق وتلاشت الأضواء وكان عليها الخروج من مسرح الحياة فاختارت هذه الطريقة الفاجعة .
كتاب د . عصام عبد الصمد , صفحات من الصدق ترسم سيناريو حياة سعاد حسني بعيداً عن الوطن , حيث هناك لحظات الأمل والسعادة مع وجود حالة من الحزن خصوصاً بعد نشر مقالة مديحة عزت التي هاجمت الفنانة بقسوة شديدة . وهناك بعض الأقلام ليس لديها نبض القلب فتستخدم القسوة والعنف , وليس الأقلام فقط وإنما شخصيات في مواقع المسؤولية والحياة لم تقدم لفنانة تعيسة طوق الأمل وتركتها تغرق بمفردها دون محاولة انقاذها .
وظروف الفنانة الذاتي غير القادرة على المواجهة كانت وراء أزمتها الحادة . كانت شخصية < زوزو > هي الحلم في الانتصار على الواقع , وتحقق ذلك في السينما , أما ظروف الحياة اليومية فكانت شاقة للغاية وجاءات هذه النهاية التي تعلن خروج الروح من الجسد لإنهاء رحلة العذاب .
كتاب د . عصام عبد الصمد مرجع مهم لحياة الفنانة , كتبه طبيب يرسم شهادة حقيقية لما كان يحدث في لندن ويسجل حرص سعاد حسني على كرامتها , ولعل اختيارها طريقة الخروج من الحياة , كان ترجمة بشكل ما لهذا الموقف .
رحم الله الفنانة , وستظل حياتها وفنها الدافع وراء اصدار الكتب في شهادة لتأريخ حياتها والغوص معها في رحلة استمرت بلندن لأكثر من ثلاث سنوات وانتهت بهذه النهاية الدامعة .