كتب جهاد فاضل:
االكبار يعترفون ببعضهم ويشيدون بما انجزه اقرانهم ولا تضيق صدورهم بهذه
الانجازات، لا يحجب هذا المبدأ قيام منافسة فيما بينهم، ولكن هذه المنافسة
تظل في حدودها الكريمة، ولا تنحدر مرة إلى الإسفاف.
بمثل هذه الكلمات يمكن الحديث عن العلاقة التي كانت بين عبدالوهاب وام
كلثوم. كان لكل منهما عالمه ولونه وخطّه الفني، كما كانت هناك منافسة
بينهما، ولكن هذه المنافسة لم تتحول يوما إلى صراع بقاء، بل كان كل منهما
يتحدث بفيض من الود عن الآخر، وكأن هذا الآخر أخ كريم لا عدو خطير
إذا انصتنا الى عبدالوهاب متحدثا عن ام كلثوم، عثرنا على معدن ثمين في
الكلام. فهو يصف ام كلثوم «بالمعجزة الكبيرة»، ويقول انه «ينحني أمامها»،
ولكن لكل منهما طريقة: «أناكنت ماشي في طريق وهي في طريق: هي ماشية في
طريق البديع والجناس واللفظ الفخم القيم، أي في لون من الأدب، وأنا كنت
ماشي في طريق آخر».
ويبدو أنه كان في نفس عبدالوهاب ألم من هذا البديع والجناس واللفظ الفخم
القيم الذي سار هو فيه ايضا، ولكنه لم يحصد دائما خيرا منه. فمع اعتزازه
العظيم باغنيته الشهيرة «الغندول» واعتباره إياها حدثا في حياته الفنية
وفي مسيرة الغناء العربي المعاصر، فانها لم تلق دائما الصدى الايجابي الذي
توقعه، فمصطفى النحاس باشا، زعيم الوفد، وكان صديقا حميما له، وجه إليه
اللوم على هذه الاغنية غير الموفقة، قبل ان يعود ويرضى عنها..
وعندما كان عبدالوهاب يغني «الغندول» ذات ليلة في طنطا، وهو في اوج فرحه
واعتزازه بها، وجد الجمهور يصفق ويطلب الاستماع إلى اغنية وهابية اخرى
بالعامية هي: «خايف اقول اللي في قلبي»، ففقد عقله. إذ ماذا تكون «خايف
أقول للي في قلبي» أمام «الغندول»؟ الأولى «حتّة بسيطة لحنها بسيط تتحفظ
يمكن هم بيقولوها غنوها سمعوها اخذوا عليها»، تضايق عبدالوهاب، ولكن ماذا
يفعل؟
فنانة محترمة وصوت نادر
وعندما يسُأل عبدالوهاب عن من صنع اسطورة ام كلثوم: موهبتها فقط أم شيء
آخر يُضاف إلى الموهبة؟ يجيب: «مواهبها الفنية وسلوكها الاجتماعي»، فالناس
كانوا يحترمون ام كلثوم لاسباب كثيرة، منها سلوكها الاجتماعي السوي، لم
يشاهد احد ام كلثوم جالسة في مقهى او مرتادة صالة سينما، او تناهى إليه
أنها كانت في جلسة وشربت خمرا، أو أن بيتها مفتوح لمن هبّ ودبّ.. كما انها
لم تكثر من الكلام في الإذاعة والتلفزيون والصحف، لقد كانت انسانة محترمة
هذا الاحترام اللي بيخليني انا كشعب احترم هذه السيدة.
وكان عبدالوهاب يقول انه معجب بأم كلثوم كإنسانة وكقيمة فنية «اذا ذهبت
اليها وجدتها قاعدة حابسة نفسها في اوضة صغيرة كده ماسكة كتاب لشوقي أو
المتنبي أو مش عارف ايه، يعني هي بتعمل كل ده ليه؟ بتعمل كده علشان ما
نديش فرصة انه ينقال عنها سيدة سلوكها سلوك طائش لا سلوك انسانة محترمة،
انسانة كبيرة».
ويصف عبدالوهاب صوت أم كلثوم بالصوت النادر الذي يتمتع بمزايا عديدة تكفي
كل مزية منها لتجعل صاحبتها مطربة عظيمة، فكيف اذا اجتمعت هذه المزايا في
صوت واحد، وفي ذلك ما يؤكد سلامة ذوقه واصالة معدنه وتقديره للحقيقة التي
اجمع عليها كل الناس.
واذا كان عبدالوهاب قد قال بعض ذلك بعد رحيل كوكب الشرق، فقد قال الكثير الثمين عن أم كلثوم في مراحل مختلفة من حياته.
أخلاق أيام زمان
ويروي الملحن محمد الموجي ان عبدالوهاب اتصل به هاتفياً غداة حفلة غنائية
غنت فيها لحن الموجي: «اسأل روحك»، يعاتبه فيها بشدة لانه وضع هذا اللحن
على درجة عالية «مااذا فعلت بالست يا محمد؟ الم تلحظ ان صوتها لم يعد
قادراً على الغناء عند تلك النغمة العالية؟
كان ذلك في أواخر أيام أم كلثوم بالغناء الشهري المعتاد الذي كانت تغنيه
في الخميس الأول من كل شهر، كان صوتها قد تعب وبدأت الحشرجة تغزو هذا
الصوت رويداً رويداً.
ويسأل الموجي عبدالوهاب: وماذا أفعل يا أستاذ؟ نبرة عبدالوهاب: اخفض لها الطبقة.
ويقول الموجي وهو يتحدث عن الاخلاق الفنية الرفيعة لذاك الجيل العظيم ان
عبدالوهاب كان يتحدث بحرقة شديدة، وقد حرص على الا يتعرض صوت فنانة عظيمة
كأم كلثوم إلى الحرج الفني الذي تعرضت له في التسجيل الأول لأسال روحك،
ولم يكن حرصه على نجاح اللحن بأقل من حرصه على صوت أم كلثوم.
والذي حدث بعد ذلك ان اغنيات أم كلثوم التي تلت هذه الأغنية أصبحت ترتكز
على نُوَط موسيقية منخفضة مع ما يصاحب ذلك من اختفاء كبير، واحياناً يكون
تاما، للمعان والبريق الذي لم يعد موجودا في اوتار صوتها، في تلك السن
المتقدمة، الا بالحد الادنى وكان الفضل في هذا التنبه الذي طرأ على صوتها،
وفي معالجته على الصورة التي ذكرنا، هو «لمنافسها التاريخي» محمد
عبدالوهاب.
مواقف إنسانية
والغريب ان الموقف الإنساني الذي وقفه عبدالوهاب من صوت ام كلثوم في
مرحلتها الاخيرة، سبق ان وقفته ام كلثوم في شبابها الفني من منافستها
الخطيرة منيرة المهدية. كان التنافس قائما على اشده بين المطربتين: كانت
احداهما، وهي ام كلثوم، في طريقها الى المجد الذي استقر لها فيما بعد،
وكانت الثانية، اي منيرة المهدية، في وضع المطربة التي ازفت شمسها (او
صوتها) بالمغيب. في احد تلك الايام العجفاء في حياة منيرة المهدية، تدعو
هذه المطربة ام كلثوم لحضور حفلة من حفلاتها الاخيرة، حرّضها على هذه
الحفلة مناصروها المخلصون المتشبثون بها. كان في ظن هؤلاء ان ام كلثوم لن
تحضر حفلة منيرة، ولكن ام كلثوم حضرت ويدها على قلبها خوفا من العواقب
التي كانت تدركها بعقلها وبتجربتها.
تحققت مخاوف ام كلثوم عندما بدأت منيرة بالغناء بصوت بلغ سن الشيخوخة
والترهل، فخرج صوتها مصحوبا بالحشرجة. ولما التفت مرافقو ام كلثوم إليها
يتوقعون رؤية علامات الشماتة او الانتصار في وجهها، رأوا بدل من ذلك
الدموع تسيل على خديها بهدوء وصمت، وكأنها لا ترثي فقط شيخوخة فنانة ملأت
الدنيا وشغلت الناس ذات يوم، بل كأنها تتخيل شيخوختها هي في سنوات لاحقة.
أحلام وأدها الزمن
بدأت معرفة عبدالوهاب بأم كلثوم في عام 1925 بعد قدومها من طماي الزهايرة
الى القاهرة عام 1924 حضر احدى حفلاتها التي كانت تقيمها في حديقة
الازبكية مع الشاعر احمد رامي الذي كانت تغني له في تلك الفترة قصيدته
التي مطلعها:
الحب تفضحه عيونه
وتنم عن وجد شؤونه
وفي احدى السهرات بمنزل احد الاصدقاء غنى عبدالوهاب وأم كلثوم معا أغنية
«على قد الليل»، ولم يلتقيا بعد ذلك لا في غناء مشترك، ولا في لحن يضعه هو
وتغنيه هي إلى أن التقيا في أواخر حياتهما في عدة اغنيات بدأها بـ «انت
عمري»، ويبدو انه كانت هناك احلام كثيرة بينهما وأدها الزمن منها،
الالتفات إلى شعراء عرب من اقطار عربية مختلفة من نوع ما فعلا مع الهادي
آدم وهو من السودان، غنت له أم كلثوم قصيدته أغدا ألقاك من تلحين
عبدالوهاب، ومع جورج جرداق اللبناني وقصيدته هذه ليلتي، كان في نيتهما كما
يقول عبدالوهاب الالتفات إلى شعر ابي القاسم الشابي التونسي وإلى شعر
شعراء عرب آخرين، قدامى ومحدثين.
ومن مشاريعها الموءودة ايضا مشروع غناء مقاطع من مسرحية شوقي (مجنون
ليلى). ومن طريف ما ذكره عبدالوهاب مرة ان ام كلثوم كانت معجبة باغنيته
جبل التوباد. ورغبت بغنائها.
تنافس فني لا شخصي
ويروي عبدالوهاب هذه الحكاية باسلوبه التالي: «هناك اغنية يمكن الناس ما
تعرفهاش كتير هي جبل التوباد، كانت ام كلثوم تحبها وعاوزة تغنيها. قالت لي
انا عاوزة اغنيها، قلت لها يا سلام ده شرف كبير يا الله غنيها. وكان
عبدالوهاب يطلق على ام كلثوم عبارة «عاصمة الاصوات»: «انا باقول عليها
عاصمة الاصوات ليه؟ لان كل ما في الاصوات موجود فيها، القفلات، الحرافة
موجود فيها اللفظ الحلو الواضح الرشيق العذب. يعني خدت من جميع الفضائل
اللي المفروض انه اي فضيلة منها تعمل مغنية، وحطتها في هذا الصوت. فانا
باسميها عاصمة الاصوات»!
وينسب عبدالوهاب الى نفسه النقلة النوعية من الكلاسيكي الى الجديد التي
قامت بها ام كلثوم على مدى سنوات عمرها الفني، هو لا سواه، الذي نقلها الى
العصري والحديث. اما الملحنون الذين سبقوه، فقد ظلوا، او ظل معظمهم، في
الاطار التقليدي المحض، وخاصة الشيخ زكريا احمد الذي التزم لونا واحدا لم
يغيره طيلة حياته.
على ان من انبل ما يقوله عبدالوهاب على صعيد التنافس بينهما، انه كان هناك
في الواقع تنافس بين شكل وشكل ولون ولون، ولم يكن هناك تنافس بين شخصين
هما عبدالوهاب وام كلثوم. وقد اوضح هذه النقطة بالقول «ان توفيق الحكيم لم
ينافس المنفلوطي. فالمنفلوطي شيء والحكيم شيء آخر».
يبقى سؤال يتعلق بحصيلة هذا التعاون التاريخي بين القمتين، يقول الناقد
الفني الياس سحاب ان الحان عبدالوهاب الكلثومية التي تتميز بتكامل واضح من
اولها الى آخرها، وتقترب من الكمال الفني والعمارة الموسيقية الشامخة هي
ثلاثة: على باب مصر، وهذه ليلتي، وانت الحب.
أصالة دائمة التجدد
بعد ذلك، تتجلى روح عبدالوهاب في الاصالة المنطلقة بلا كلل نحو التجدد،
والتميز بغزارة الجمل الموسيقية الجميلة، في ثلاثة نماذج اخرى هي: فكروني،
ودارت الايام، وغدا القاك.
وحتى امل حياتي، وليلة حب، التي تبدو اضعف الحان عبدالوهاب الكلثومية، فان
من يستمع اليها بتسيجلات خاصة بصوت عبدالوهاب وعوده، يكتشف فيها حساسيات
وهابية، كان بامكان صوت أم كلثوم في آخر حفلاتها (1973) ان تؤديها بما
تستحق، وتكشف عن مكنوناتها.
أقصر الحان عبدالوهاب لأم كلثوم، هو: اصبح عندي الآن بندقية، وهو أكثر
الحانه لأم كلثوم وهابية، فقد ادته أم كلثوم بحساسية راقية وبمسحة من
الحزن الدفين الراقي، النابع من مشاعر عميقة، يحركها الموضوع الذي يتحدث
عن مأساة فلسطين، واللافت للنظر ان هذا اللحن القصير القوي، كان فرصة
لاقدام أم كلثوم، أول مرة وآخر مرة في حياتها، على الغناء بطريقة تسجيل
الصوت فوق تسجيل الاوركسترا الجاهز، من خلال وضع السماعات في الاذنين.
وقد روى عبدالوهاب ان أم كلثوم جفلت من تلك الطريقة في البداية، وحاولت
الاصرار على الغناء الطبيعي مع الاوركسترا، لكن عبدالوهاب استخدم معها مرة
أخرى اسلوب الاقناع العملي، لا النظري، سجل الاغنية بصوته امامها بالطريقة
التقنية الجديدة في ذلك الوقت، فتجاوبت أم كلثوم.
تراث جمع العرب
ويرى الياس سحاب ان حصيلة التعامل المتأخر بين عبدالوهاب وأم كلثوم ما كان
يمكن لها، لاسباب موضوعية كثيرة، ان تكون أجمل أغنيات أم كلثوم، ولا اعظم
الحان عبدالوهاب، ولكن رصيد أم كلثوم الغنائي، ورصيد عبدالوهاب اللحني، قد
اغتنيا بهذا التعاون الذي يمكن لبعض ثماره ان تصنف بين أجمل اغنيات أم
كلثوم، وأجمل الحان عبدالوهاب. ويكفي ان هذه الألحان قد جعلت كل المستمعين
العرب، من كل فئاتهم واعمارهم واذواقهم، ينضمون بلا استثناء هذه المرة إلى
جمهور المستمعين لأم كلثوم، ويندفعون بعد ذلك إلى ما هو أهم إلى اعادة
اكتشاف التراث الكلثومي والاستمتاع به من اوله إلى اخره، وبكل المدارس
الموسيقية التي اسهمت في انتاجه.
على ان النتيجة كما يقول محللون كثيرون، ان نتيجة التعاون بين عبدالوهاب
وأم كلثوم لم تكن مثالية، ولم يكن من الممكن لها ان تكون كذلك في توقيتها
وظروفها، ولكن تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة في القرن العشرين هو مع
ألحان عبدالوهاب العشرة لأم كلثوم، اغنى منه بغير هذه الألحان