يتحدث المؤرخ المشهور المقدسي عن سليمان بن عبد الملك وإنشائه مدينة الرملة قبل أن يصبح خليفة وعن تشييد المسجد الجامع فيها.
ثم يقول إن سليمان بنى أول مسجد جامع في حلب، ويتابع المؤرخون ترديد هذا
القول وتأكيده، ويقول ابن الشحنة، كان مسجد حلب الكبير منافساً لمسجد دمشق
في زخرفته وكسوته الرخامية وفسيفسائه. ويقول، سمعت إن سليمان بن عبد الملك
هو الذي بناه رغبة منه في أن يجعله مساوياً لأعمال أخيه الوليد في مسجد
دمشق الكبير.
ولكن خلافة سليمان لم تكن طويلة 97ـ99هـ/715ـ717م ومن المرجح أن الوليد بن
عبد الملك الذي حكم من 705ـ715م ابتدأ ببنائه في حياته وأكمله أخوه سليمان
بعده وهذا يعني أن المسجد أنشىء خلال عامي 92ـ99هـ/710ـ716م.
وهذا المسجد أنشىء في وسط مدينة حلب التي تعتبر أقدم مدينة في التاريخ،
ولا شك أن الخليفة انتقى مكاناً وسطاً فيها، ولم يكن أصلح من منطقة
متهدّمة متروكة كانت عليها كنيسة هيلانة أم قسطنطين إمبراطور بيزنطة،
وكانت قبلاً أغورا المدينة في العصور الهلنسية الرومانية
.
وليس من السهل التعرف على هوية المسجد الأموي، ذلك إن هذا المسجد أصيب
بويلات صعبة، كان أقدمها ما فعله العباسيون إذ أزالوا بعض زخارفه. ثم
أصابه حريقان كبيران؛ الأول بفعل نقفور إمبراطور الروم والثاني بسبب
داخلي.
ويعود الفضل في إعادة ترميمه إلى سيف الدولة الحمداني ملك
حلب. ثم قام نور الدين بتوسيعه فأصبح مربع الشكل. على أن الوضع الحالي
للمسجد في أبعاده وأقسامه ـ فيما عدا مئذنته ـ يعود إلى عصر المماليك؛
الملك الظاهر بيبرس، والسلطان قلاوون وابنه الناصر محمد
.
ومع ذلك فإن وصف ابن جبير في رحلته، لهذا الجامع الذي زاره سنة
580هـ/1183م يبين حالة المسجد قبل حريقه مع الأسواق سنة 564هـ/1168م
وترميمه من نور الدين فيقول: "إنه من أحسن الجوامع وأجملها، قد أطاف بصحنه
الواسع بلاط كبير متسع مفتح كله أبواباً قصرية الحسن إلى الصحن، عددها
ينيف على الخمسين، والبلاط القبلي الحرم لا مقصورة فيه فجاء ظاهر
الاتساع".(4)
ثم يصف المحراب والمنبر وزخارفهما فيقول "ما أرى في بلدٍ من البلاد
منبراً على شكله وغرابة صنعته، واتصلت الصنعة الخشبية منه إلى المحراب
فتجللت صفحاته كلها خشباً على تلك الصنعة الغريبة وارتفع كالتاج العظيم
على المحراب، وعلا حتى اتصل بسمك السقف وقد قوّس أعلاه.. وهو مرصع كله
بالعاج والأبنوس
إن المنبر والمحراب الذي يصفه ابن جبير قد صنع في الوقت الذي أمر فيه نور
الدين بصنع منبر للمسجد الأقصى، نقله فيما بعد صلاح الدين بعد تحرير القدس
سنة 583هـ/1187م. ومن المؤكد أن صناع هذا المنبر وهم معالي وأولاده
المذكورون على منبر المسجد الأقصى الذي أحرقه الصهاينة سنة 1969، أي أنه
يحمل نفس الشكل والزخارف. ولقد قام هؤلاء بصنع محراب مدرسة الحلوية على
غرار محراب مسجد حلب الذي وصفه ابن جبير. إذ إن ورشة أولاد معالي كانت
تعمل في فناء الحلوية المجاور للجامع الكبير. على أن المنبر الحالي يعود
إلى أيام الملك الناصر محمد. والمحراب الحالي يعود إلى عصر السلطان
قلاوون، كما سنرى
.
وإذا أردنا وصف المسجد الكبير في نظامه الجديد، فإننا نراه محاطاً بواجهات
جديدة تنفتح منها أبواب قديمة أربعة، باب من كل جهة. وهو مؤلف من صحن واسع
محاط بأروقة ثلاثة، وحرم في الجهة القبلية والصحن مغطى ببلاط رخامي بلونين
أصفر وأسود وبتشكيلات هندسية مازالت تميز هذا الصحن، وتعود إلى العصر
العثماني وقد جددت مؤخراً. وتنفتح على الصحن عقود عشرة من الجانبين وستة
عشر عقداً في الشمال ومثلها في الجنوب تعود إلى الحرم وقد أغلقت هذه
بأبواب خشبية، وفي وسطها مدخل كبير يصل إلى الجناح الأوسط الممتد حتى
المحراب الكبير. وتنهض جميع العقود نصف الدائرية، على عضادات مستطيلة وليس
على أعمدة. وفي وسط الصحن ميضأة حديثة مغطاة بقبة، وثمة قبة أخرى تحمي
ساعة شمسية أما الحرم فإن سقفه محمول على عضادات مشابهة لتلك الموجودة في
الصحن، تحمل أقواساً متصالبة على شكل عقد في ثمانية أجنحة عرضية موازية
لجدار القبلة في جنوبي الحرم، وتعلو الجناح المتوسط قبة صغيرة تغطي منطقة
المحراب.
وفي الحرم سدة من الخشب المزخرف بألوان مختلفة مع كتابة تشير إلى عصر بانيها "قره سنقر كافل حلب
ويعود المنبر إلى عصر الملك الناصر محمد، وصنعه محمد بن علي الموصلي، كما
تشير الكتابة عليه، وهو من أجمل المنابر مزخرف بالرقش العربي الهندسي
المركب من خشب الأبنوس والمنزل بالعاج والنحاس البراق ويعود المحراب إلى
عصر السلطان قلاوون وقد تم بإشراف كافل حلب قره سنقر سنة 681هـ/1281م وهو
مبني بالحجر المشقف بزخارف هندسية رائعة وكما هو الأمر في الجامع الأموي
بدمشق، فإن ضريحاً يطلق عليه اسم الحضرة النبوية، ويقال إنه يحوي قبر
النبي يحيى، موجود وفيه أشياء ثمينة محفوظة، منها مصاحف شريفة كتبها كبار
الخطاطين الأتراك، وفيها قناديل قديمة مذهبة ومفضضة وقواعد شمعدان ولقد
أنشىء هذا الضريح منذ عام 907هـ/1500م ورمم مراراً، وكانت آخر الترميمات
سنة 1030هـ/1620م وكسيت جدرانه الثلاثة بألواح الخزف القاشاني وأقيم باب
الضريح وفوقه قوس من الحجارة بلونين أسود وأبيض إن أروع ما يحويه هذا
المسجد، هو مئذنته المربعة المرتفعة خمسين متراً والتي جددت سنة
873هـ/1094م بديلاً عن مآذن أموية نعتقد أنها كانت أربع مآذن في أركان
المسجد، وكانت مربعة ولا شك على غرار جامع أمية الكبير بدمشق والجوامع
الأخرى التي أنشئت في عصر الوليد
ولكن المؤرخين يتحدثون عن منارة واحدة كانت سابقة لهذه المئذنة أنشئت في
عصر آق سنقر سنة 482هـ/1089م وكان طولها 46متراً أي ما يقارب طولها الحالي
واحترقت سنة 574هـ/1178م. والمئذنة اليوم، هي أشبه بآبدة تذكارية رائعة
متناسقة الأبعاد ارتفاعاً وعرضاً. ولقد زخرفت وجوهها الأربعة بزخارف حجرية
بارزة وزّعت على أقسامها الخمسة، وأجملها القسم العلوي الذي يزدان بفتحةٍ
محاطة بزخارف مقرنصة وتحتها قسم مؤلف من نافذتين مغلقتين يعلوهما قوس
دائري، وينهض فوق القسم العلوي شرفة الأذان تغطيها مظلة خشبية محمولة على
أعمدة خشبية وفي أعلاها ذروة مكعبة تجعل هذه المئذنة فريدة من نوعها لا
تشبهها إلا مئذنة جامع المعرّة، مدينة أبي العلاء، والتي مازالت قائمة حتى
اليوم، إلا أنها أصغر حجماً من مئذنة الجامع الكبير في حلب