صفعنى نجيب الريحانى .. و ما زلت اذكر له هذا الجميل
الكاتب/ الموسيقار الاستاذ / محمد عبد الوهاب
هذه ذكريات كتبهاالموسيقار محمد عبد الوهاب للمصوّر خاصة بمناسبة الذكرى الرابعة لوفاة فقيد المسرح و الفن الاستاذ نجيب الريحانى .
عرفت نجيب الريحانى فى مراحل حياتى كلها , عرفته فى طفولتى و فى شبابى , و عملت معه ممثلا و مطربا و لحنا و منتجا فلمست من خصائص فنه ما يبهر و عرفت من ايات عبقريته ما يؤكد ان فجيعة مصر فى فقده بل ان فجيعة الشرق العربى كله , فجيعة ضخمة .
الدرس الاول
و انى لاذكر اول درس تلقيته على يدى ذلك المربى القدير.. كنت صغيرا لا اتجاوز العاشرة من عمرى عندما التحقت بفرقة الريحانى و كان على فى الليلة الاولى لوقوفى على المسرح ان القى جملة يبدا بعدها نجيب تمثيل دوره , و جاءت اللحظة الرهيبة و وقفت امام النظارة , و اذا بالجملة تطير من ذاكرتى و اسودت الدنيا فى عينى و انعقد لسانى و زاغ بصرى و تخاذلت رجلاى .. و نظرت الى نجيب نظرة التلميذ الى استاذه فحاول ان يشجعنى و لقننى الجملة المفقودة و لكن رهبة الموقف افقدتنى السيطرة على نفسي .
وقف الريحانى فترة ينتظر جملتى ليبدا .. حتى كااد زمام الموقف ان يفلت من يديه , و اذا بالغضب يستبد به و فجأة تقدم منى و صفعنى على وجهى صفعة قوية اخرجتنى من المسرح , ولم يكترث بالجمهور الذى كان يرى هذا المشهد مأخوذا .
القلب الكبير
و وقفت بين الكواليس ابكى بكاء حارا .. ابكى من الاهانة .. و ابكى من المجد الذى كنت اعلل نفسي به ثم تبخر فى لحظات .. و انتهى الفصل الاول و عاد نجيب الى ما بين الكواليس فرآنى ابكى .. و اذا به يتقدم منى ببطء و فى عينيه نظرة حنو و اشفاق ثم يربت على كتفى برفق و يقول : " لا تؤاخذنى يا ابنى .. انا على المسرح انسى نفسي و انسى عواطفى و انسى كل شىء الا الفن .. متزعلش يا محمد " و ظل يسترضينى حتى كففت عن البكاء .
هذا الحادث اشعرنى بالقلب الكبير الذى يحمله الريحانى بين جنبيه و اكد لى ان النجاح الذى بلغه الريحانى لم يبلغه بمحض الصدفة بل لان روحه كانت تحلق دائما فى اجواء الفن الرفيع الذى مارسه اربعينعاما او تزيد .
يحرسنى فى الشام
و صحبنى الريحانى فى رحلة الى " الشام " و كنت فى سن المراهقة و هناك تجلت لى انسانيته كانسان وثيق الصلة بالمثل العليا .. فعلى اثر وصولنا انتحى بى جانبا و قال لى " اسمع يا محمد .. انت ما زلت طفلا على الغم من نجاحك كممثل و مطرب , و انا اعتقد ان صوتك و تفهمك للفن سيبلغان بك الى اعلى مراتب النجاح لهذا فاننى اخشى عليك يا ابنى من اصدقاء السوء فى بلاد الغربة .. نحن فى وسط يشرب الخمر و يلعب الميسر و يسهر فى بيوت الغانيات و انا اخاف عليك من كل هذا .. و لهذا ساحرم عليك هذه المبادىء .. و ساحرم على نفسي اكثر من كتعة لابقى بجانبك .. لن اتركك تسير مع احد غيرى .. بل و لن ادعك تنام الا فى حجرتى "
و طلب نجيب سريرا اخر اضافة الى حجرته و خصصه لنومى و ظللت فى حراسته اليقظة حتى عدنا الى القاهرة و فى القاهرة قال لى " " دلوقتى انت حر .. و لك من اهلك خير رقيب "
دموع صادقة
و على الرغم من ان الريحانى كان رائد المسرح الفكاهى .. الا انه كان نزاعا الى تمثيل الدراما لمست فيه هذا عندما عملت معه فى روايته الاخيرة " غزل البنات " فقد اراد ان يمثل دوره الكبير بطريقة مبكية و باسلوب دراماتيكى يفتت الاكباد و لكنى خشيت على انتاجنا من هذه النزعة الحزينة فما زلت به , يعاوننى فى ذلك الاستاذ بديع خيرى حتى قبل كارها ان يمثل دوره بالطريقة التى رآها الجمهور , و مع هذا فقد ابى الا ان يبكى و يبكى الجمهور معه , ابكاه و هو صامت لم ينطق بكلمة واحدة , ابكاه بتلك الدموع الصادقة التى كانت تنهمر من عينيه و هو يستمع الى مقطوعتى عاشق الروح و لم تكن هذه الدموع فى سياق الرواية و لكننا فوجئنا بها كما فوجىء بها الجمهور , الذى راى فيها روح الفنان تنساب فى قطرات .
كان الريحانى تواقا لان يكون ممثل دراما و قد فشل فى مستهل حياته و لكنه ثأر لنفسه من هذا الفشل بهذا النجاح الباهر الذى سجله لنفسه فى اواخر ايامه و كان مرجع نجاحه الى انه كان يعالج العلل الاجتماعية باسلوب ظاهره المرح و الفكاهة الا انه يبعث فى نفس مشاهده الشعور بالحزن و الاسى و الرثاء , و هو ارفع الوان الدراما .
مكتشف الكنز
و لقد كان الريحانى رفيع الذوق , دقيق الاحساس , ذواقة لكل الوان الفنون , كان يستمع احيانا لبعض الحانى فيبدى نقده لاجزاء منها , و كنت عندما اراجع نفسي و ازن نقده اجده على حق , و بهذا الذوق الممتاز اسدى الريحانى الى فن الموسيقى يدا لا تنسي تلك اليد المتفضلة هى " سيد درويش " العبقرى الخالد الذى سبق جيله باكثر من ثلاثين عاما .. لقد كان الفضل الاول فى الكشف عن هذا الكنز لنجيب الريحانى , الذى لمس فى هذا الفنان المغمور " سيد درويش " روحا فنية و مجدا دفينا او ثروة ضخمة مكتنزة من الالحان فقربه اليه , و اضفى عليه من رعايته و عنايته حتى اطمان الى رزقه فاخرج للاجيال التى بعده هذا التراث الخالد .
و فى اعتقادى ان نجاح هذا الفنان الموهوب يرجع الى انه كان ممثلا بطبيعته و سليقته لا بصناعته التى قد تنجح مرة و تفشل مرات , و كانت حياته فى الطريق و فى البيت و على المسرح على اسلوب واحد لا اثر فيه للاصطناع , لقد كان ممثلا بطبعه او انه جعل من التمثيل طبيعة حياته ... رحمه الله فان فى مثله يعز العوض .