يا إله الكون.. ارحم لبنان! واحم الإنسان.. من الإنسان!
أحمد الواصل
كيف هذا؟! أكتب عشر مرات كلما أبدأ سطراً أو اثنين أمحو كل شيء لأبد أمن جديد، ولا أعرف أنني أقادر على الكتابة أم سأتلمس المعجم لأرى ما إذا كنت لا زلت أذكر الحروف والكلمات.
ماذا يابيروت، ما مدينة البدايات كلها؟
هل ستعاد صرخات وحماسات الأناشيد والأغاني الحمراء والزرقاء، وتطلق حناجر الذهب والنحاس مفردات الحروب من الرصاص مروراً بالدفع ونهاية بالدم والأحشاء الفتات؟
كل ما في الفضائيات يرفع (الضغط) تماماً، ومهما حاولنا الهرب من محطات سخنت أخبار صيفها عن بيروت وبغداد والقدس إلا أن الريموت كنترول بأقل جهد يبعد هذا ويقرب ذاك.
كل المحطات الفضائية مشغولة بالحدث، كأنه لا حدث..
كأني نسيت أغاني وردة كلها، ولم أذكر سوى «لبنان الحب - 1983 التي غنتها بعد اجتياح إسرائيل أبواب وساحات بيروت، كتب الشاعر حسين السيد باسم لبنان، وشجر الأرز وجبال بعلبك، وساق ألحانه محمد عبدالوهاب من أجناس وخلايا مقامات الحزن (النهوند) والضراعة (الحجاز) والعزاء (البياتي)، فقد جر موسيقي وإيقاعات الحرب والصلاة والنشيد، كأن الفن يجمع قواه كلها بحنجرة وردة في نصفها الأمومي اللبناني، فأمها من عائلة (يموت) من صيدا، لكنه الصوت ينادي منفعلاً جداً:
يا كل حبايبي/ صلوا مع قلبي
بحق محمد وبحق يسوع/صلوا للّه وبكل خشوع
يا إله الكون..! ارحم لبنان/من العدوان.. من الطغيان
يا إله الكون.. احم لبنان/واحم الإنسان.. من الإنسان
وارحم لبنان.. واحم لبنان!
أعرف أن السيدة حيث لاسواها (فيروز) من بعد حزنها الطويل المليء بالفقد والترمل، كانت تهزأ في لقاء تلفزيوني مع توفيق حلاق، القاهرة - 1989، بأن سقط صاروخ على بيتها وهدم جزءاً منه، فقالت بغتة: ناعمة كلمة صاروخ!؟
ماذا تفعل السيدة الحزينة على دماغ عاصي المنفجر أم على بلد ينضح بالدماء والشقاء؟
«لبنان الكرامة والشعب العنيد» الذي هجاه زياد الرحباني على طريقته: بخصوص الكرامة!
ماذا تفعل الآلام والجنون بما جدة الرومي؟ هل كفاها الصهيل القباني الذي تستعيده؟..
لطالما اعترفنا بأنا جرحناها غيرة وحملناها معاصينا، أ تراها تلك الصبية الشقية جوليا ستنادي (وين الملايين؟) بعد أن هزئت بكل سياسي تيارات تيارات الأقبية والمنافي والسجون:
«على شو بعدك بتحبو على شو؟/ماشي على دربه..على شو؟»
هل سيغير مرسيل خليفة مشروعه المؤجل ويعود إلى نشيد الخبز والقهوة مع محمود درويش، حين يعترف بأن موسيقاه لا تعادل إلا ما هو أدنى بكثير من الشعر، فإن راح الشعر لم تقم ولم تكن؟.
ماذا سيفعل عبيدو باشا الذي صب غضباً طويلاً على الأغنية السياسية والوطنية...؟، وماذا عن انتحار الشاعر خليل حاوي يوم اجتياح مضى، هذيان الروائي يوسف حبشي الأشقر، وزهرات تحترق في سرد حنان الشيخ وجنون يشد أذرعة الحكايات عند هدى بركات..؟
ماذا أقول يا أنسي الحاج، أنت في كهوف صمتك قصي من كل شيء إلا بيروت؟
هل سأذكر ما كتبه درويش وشدا به خالد الشيخ عن مدينة كل الجروح الصغيرة.. أدق على كل باب.. أنادي، وأسأل، كيف تصير النجوم تراب؟، وكيف صارت «أغنية حب - 1987» حين سجلها وغناها خالد الشيخ ولما تزل تمنعها الرقابة في بلدان كثيرة؟
هل سأذكر حنق عارف الزياني يوم سألته لماذا لا يعرف أحد عن نشيدك: بيروت، في أول شريط لك» سحرت الناس - 1985»، فشتم من كان السبب في حجب تصويرها وبثها آنذاك؟.
لعلك تذكرنا يا عارف بما كتبه سليم عبدالرؤوف حينها:
«فالبحر قد يموت/والشمس قد تموت
والموت قد يموت/لكنني الشهيد.. لن أموت
لا، لا لن أموت/ما دمت في بيروت
أعيش فوق الأرض كالزهور/أعيش تحت الأرض كالجذور..
لكنني الشهيد.. لن أموت»
قريبة يا بيروت، يا زهرة العالم..
أنت الأمومة كلها بين آباء ذئاب وأبناء خونة..
وردة تصرخ عالياً: يا إله الكون.. بينما السيدة الحزينة تحتضن بيروت ابنة ولبنان ابنا، وماجدة مشغولة بتخطيط كلمات ولحن نشيد جديد، وجوليا يتصاعد النار والغضب في رأسها، يفكر زياد أخوها مع الشاعر نبيل أبو عبده بعمل ولا يأتي، ومرسيل يحمل عوده ويهزه عنيفاً ويرميه ليرى ابنه رامي على البيانو فيصغي كأن رامي يستلم الموسيقى من وردة التي تضج بالمكان والزمان، لعلها تكنس أغان رخيصة على الرصيف باتت تتحين موعداً قريباً لتنتشر مع البعوض والمياه الآسنة بين الجثث، والدموع لكن عناق الأحبة والرضا لا ينساه البشر.. فالمدينة ليست وحدها.
أصدقائي كلهم هناك، أخبرتني نجاح طاهر أنها تختبئ في محترفها الفني بين لوحاتها وأغلفة معطلة، وفاديا الحاج تصلي طويلاً، والأب بيار بوزيدان ينذر باسم الحياة والحب من أجل لبنان، ومحمد سويد ترك سيناريو فيلم أو برنامج وحده، وأبو هيثم عيسى أحوش، في مكتبته بيسان، بشرني بنجاح ابنه ولعن إسرائيل.. ماذا عن الآخرين، فلا اتصال ولا رسائل؟.. أوه.. لست منسية يا بيروت.
حفلة لبنان - يارب ارحم لبنان