ستون عاماً من استقلالهم وستون على نكبتنا ومسرح الجريمة لا زالَ حيًا فيه, ركام البيت شاهد عيان والقبر , أدلة إثبات في لائحة الاتهام التي تبيّن بوضوح من هو الجزّار ومن هو الضحية
ان الاستقلال والنكبة روايتان متصارعتان، كانتا ولا زالتا، وتنفى كل منهما الأخرى لأن يوم استقلالهم يوم نكبتنا، فستون عام على استقلالهم تقابلها ذكرى ستون عامًا على سلب الوطن وما سبقه وتزامن معه وتبعه من قتل وهدم وتهجير وجرح نازف لم يلتئم بعد، وأم تحتفل فرحًا باستقلالهم تقابلها أم رسم الدهر أقسى ملامحه على جبينها الأسمر ويقتلها الحنين الى ابن قُتل وعائلة تشردت وبيت هدم وتراب تموت شوقًا للقائه من جديد بعد أن جُبل بطفولتها، فوراء كل باب رواية، وخلف كل ما تبقى من انقاض قصة لا يدرك كنه مرارتها إلا من عايش قسوتها على جلده
ويمكننا أن نتفق، أننا أمام الذكرى الستين من النكبة، وليس على النكبة أو للنكبة. أي أنَّ حقيقة ديمومة النكبة واستمراريتها لا رَيْب فيها. وبهذا المعنى فإن النكبة ترافق الشعب الفلسطيني، ليس في ماضيه فحسب، وليس كذاكرة جماعية فقط، إنما في حاضره ومستقبله أيضا
ان الحقيقة هي ان الصهيونية العالمية استغلت التعاطف العالمي والتضامن العالمي مع ضحايا جرائم النازية من اليهود وغيرهم، جرائم معسكرات الموت والمحارق، استغلت كل ذلك لدعم مشروع اقامة الدولة في فلسطين الانتدابية تجسيدا لوعد بلفور الاستعماري وللتغطية على اكبر جريمة تطهير عرقي جرت في القرن العشرين ارتكبتها الصهيونية بالتآمر والتنسيق مع الانظمة الامبريالية وبتواطؤ بعض الانظمة الرجعية العربية. تطهير عرقي أدى الى تشريد اكثر من سبعمئة الف فلسطيني الى المنافي القسرية خارج حدود وطنهم. تطهير عرقي لجأت من خلاله القوى الصهيونية الى ارتكاب ابشع المجازر والجرائم ضد المدنيين الفلسطينيين في دير ياسين والطنطورة وعيلبون ومجد الكروم وغيرها وهدم اكثر من خمسمئة مدينة وقرية و"خربة" عربية لاجبار الفلسطينيين على الرحيل من ارض الآباء والاجداد وحرمان الشعب العربي الفلسطيني من حقه الشرعي والوطني بتقرير المصير في اطار دولة مستقلة ذات سيادة
وما زال المشروع الصهيوني مُتواصل ويجري تنفيذه يوميا في النقب والمدن الساحلية، وفي المثلث والجليل، دون أدنى شك، وهذا" المشروع" يظهر بأشكال وأدوات وتشريعات مُتعددة الأطياف، لكنها تصبّ في النهاية في المشروع ذاته، وللغايات عينها. فالنكبة إذا، تعني كارثة وجودية وطنية وقومية للشعب العربي الفلسطيني، بَدَأت بتطهير عرقي فَجّ عام 1948، لكنها لم تتوقف عند ذلك التاريخ
ولهذا، فان قيام اسرائيل واعلان استقلالها في الثمانية والاربعين كان في نفس الوقت انفجار جرح النكبة الفلسطينية النازف دما حتى يومنا هذا، وتحول الشعب العربي الفلسطيني بغالبيته الساحقة الى شعب من اللاجئين في الشتات القسري. وتتحمل اسرائيل الرسمية واوساطها الصهيونية الحاكمة المسؤولية السياسية والاخلاقية عن النكبة وعن قضية اللاجئين وحقهم الشرعي والانساني والاخلاقي بالعودة
ولهذا ليس من وليد الصدفة ان يؤكد الفلسطينيون في جميع اماكن تواجدهم بما في ذلك داخل اسرائيل، ورغم مرور ستين سنة على النكبة، تمسكهم بالحقوق الوطنية الفلسطينية غير القابلة للتصرف، بحق تقرير المصير في اطار دولة مستقلة في حدود الرابع من حزيران السبعة والستين وعاصمتها القدس الشرقية وحق اللاجئين بالعودة. وليس من وليد الصدفة ان رسالة الفلسطينيين في جميع اماكن تواجدهم في يوم استقلال اسرائيل كان "يوم استقلالهم يوم نكبتنا"
إن إحدى أهم المحطات التاريخية للجماهير العربية الفلسطينية، الباقية في وطنها، هو عندما أخْرجت الخطاب الجماعي لرواية "النكبة وحق العودة "من قُمقم الوعي، حين أحْيَت للمرة الاولى الذكرى الخمسين للنكبة عام 1998،عبر مسيرة العودة في قرية صفورية الجليلية المهجّرة، والتي ما زالت مستمرة كل عام, وأفَرَجتْ بذلك عن الرواية وعن المصطلح، دون ان يعني ذلك ان تلك الرواية لم تكن حاضِرة في الوعي ما قبل هذا التاريخ
لذا علينا أن نميِّز بين الاعتراف بوجود اسرائيل (كواقع موضوعي)، وبين حق اسرائيل في الوجود. هذا يعني أن الحق لوحده لا يضمن لصاحبه الانتصار بالضرورة، لا في الحرب ولا في السِلم. فوجودها لا يعني عدم وجودنا وقيامها لا يعني نسيان فلسطين في غياهب التاريخ بل بالعكس لقد انجزنا بقاء وصمودا وتطورا في الوجود والوعي حتى يومنا هذا, وما زال الطريق طويلا ... الا ان النور اصبح واضحا في نهاية النفق حتى لو طال ظهوره للجميع.
Labels: كلام في السياسة