هنا في الرأي على مشكلة المرارة...»
هكذا ووفقاً لاعترافه لم يهرب بليغ ولم يساعده أحد على ذلك، وفي حوار الى مجلة «آخر ساعة» يقول:
«أنا لم أهرب من مصر قبل صدور الحكم في القضية، بل كنت مرتبطاً بموعد في مستشفى «سازازان» وهو أكبر مستشفى متخصص في علاج أمراض الكبد بالعاصمة الفرنسية، وذلك لأخذ عيّنة من الكبد، ولم يكن يخطر ببالي أنني سأدان بعد سفري».
وكان يُعرف عن بليغ حبه للسفر، وثمة بالفعل أكثر من واقعة تدل على هذا العشق ربما أبرزها واقعة تخليه عن «البروفة» مع كوكب الشرق بسبب سفره الى بيروت، تلك الواقعه التي كادت تتسبب في إنهاء علاقتهما الى الأبد.
يقول بليغ: «أنا بموت في السفر، تيجي لحظة أحس فيها بأنني يجب أن أختفي، جواز سفري موجود على الدوام في سيارتي، كانت معي دائماً تأشيرة خروج لمدة ستة شهور، ما إن تنتهي حتى أحصل على غيرها».
خلاص مسافر
مسافر مسافر
صحيت في يوم من الأيام
حسيت أني يا عيني غريب
حسيت بغدر الصحاب
أنا اللي ياما غنيت على الليالي
في الفرح موال وفي الجرح موال والصبر موال
أصبح على دي الحال
غريب
غريب ولا حد جنبي قريب
قلت أسافر... مسافر
«تطربني الموسيقى وقدرتها السحرية على أخذي من هنا إلى أماكن وأزمنة أخرى...»، كان يتمتم بهذه الكلمات فيما يتابع عازف كمان تصدّر بنغماته العذبة ميدان الطرف الأغر (ترافالغار) الشهير في لندن.
أدخلته الموسيقى في حالة من الشجن ساعد على دعمها مشهد الحمام المنتشر من حوله ومداعباته للبشر، أضيف له الطقس الذي كان دافئاً على غير العادة.
تنهّد بليغ حينما تذكر زياراته المتكررة الى لندن والى هذا المكان تحديداً بصحبة العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ رفيق مشوار الفرح والألم، تذكر أول لقاء جمعهما عام 1957 وكيف نجح العندليب في «اقتناص» أغنية «تخونوه» على رغم أنها كانت معدّة أصلاً للفنانة ليلى مراد لتطل بها على جمهورها الذي غابت عنه سنوات طويلة اختياراً لا قهراً.
ابتسم بليغ وهو يتذكر كيف تجرأ العندليب واتصل بليلى مراد يرجوها بأن تتنازل له عن اللحن، وتذكرأيضاً كيف خرج غاضباً، خانقاً لضياع فرصة عمره في أن تغني ليلى مراد مطربته المفضّلة أحد ألحانه، تلك الموهبة التي لم ولن تتكرر مرة أخرى كما كان يؤكد دوماً.
بليغ وحليم حالة شديدة الخصوصية على خريطة الغناء، تجربة ثرية ومتنوعة كانت وستظل تدعوناً الى البحث والتأمل، لم تجمعهما الألحان فحسب ولكنهما اقتسما معاً الأيام بكل ما فيها من فرح، حزن، وغضب...
في حواره مع الإعلامي وجدي الحكيم يحكي بليغ عن صديقهما المشترك قائلاً: «على رغم صداقتي المبكرة لعبد الحليم، وعلى رغم أننا كنا نسهر كل ليلة تقريباً في معهد الموسيقى، إلا أن التعاون بيننا بدأ متأخراً بعض الشيء».
ويواصل قائلاً: «علاقتي بحليم علاقة خاصة جداً، كنت أخاه وصاحبه، نسافر سوا وننام سوا، حليم هو الصوت الذكي، كان لديه وعي كامل فكرياً وأدبياً، لأنه تربى على أيدي ناس عظماء».
على طول الحياة نقابل ناس
ونعرف ناس ونرتاح ويا ناس عن ناس
وبيدور الزمن بينا يغير لون ليالينا
وبنتوه بين الزحام والناس ويمكن ننسى كل الناس
ولا ننسى حبايبنا أعز الناس حبايبنا أعز الناس حبايبنا
بليغ شارك حليم أيضاً تجربته السينمائية، وعبر 16 فيلماً قدّم له أنجح الأغنيات فيها منها «تخونوه» في فيلم «الوسادة الخالية»، «خسارة خسارة» في «فتى أحلامي»، «خايف مرة أحب» في فيلم «يوم من عمري» ،»جانا الهوى» و «الهوا هوايا» من فيلم «أبي فوق الشجرة» وغيرها.
أما على مستوى الأغاني الوطنية فقدّم له أحد أجمل الأغنيات «موال النهار» والتي قدّماها عام 1967 أي في أعقاب الهزيمة العسكرية، وكانت من إبداع عبد الرحمن الأبنودي الذي كتب لهما أيضاً في العام نفسه أغنية «المسيح»، والتي غناها حليم على مسرح «ألبرت هول» أكبر مسارح لندن.
وبعيداً عن الأبنودي كانت لبليغ وحليم تجارب أخرى متميزة مع الأغنيات الوطنية مثل»البندقية اتكلمت» لمحسن الخياط، قدماها عام 1968 أثناء حرب الاستنزاف، وأغنية «عاش اللي قال» وكانت مع حرب التحرير في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973.
الـــــهـــــــوى هـــــوايـــــا
واخــطـــف نـــجــم الليـالـي
يضوي يا أحلى الصبايــــــــا
ابـنيــلـــك قصــر عـــالــــي
واشغـــلك عقــد غــالــــــي
أنا الـــــهـــــوى هـــوايــــا
يبقى القمر قاريبنـــــــــــــــا
والنسمه اللي تاخذنـــــــــــا
الـــــهـــــــوى هـــــوايـــــا
ندخل كتب الحكـــــــــــاوي
واعمل طبيب مـــــــــداوي
أنا الـــــهـــــوى هـــوايــــا
بصمة أخرى من البصمات «البليغية في مشوار العندليب يمكن تلمّسها في الأغنيات التي وصفها البعض بالشعبية، فيما أسماها بليغ الباحثة في التراث، وبغض النظر عن المسمى فإنها كانت أشبه بطوق النجاة الذي ألقاه بليغ لحليم كي يحرر حنجرته من الحصار في نوعيات محددة من أغنيات السهد وعذاب المحب وغيرها من تراث «النواح والبكائيات» في رصد مشاعر المحب، تلك التي أدار لها بليغ ظهره تماماً، فما لا يتوافق مع وعيه ورؤيته الخاصة كإنسان لا يمكنه التعامل معه كفنان بدليل رفضه تلحين أغنية كوكب الشرق «حسيبك للزمن»، بسبب «الزمن حيدوقك في البعد ناري... الزمن هو اللي حيخلص لي تاري»، متسائلاً: «كيف أقول لحبيبي هذا الكلام».
المؤكد أن أغنيات «سواح»، «توبة»، «مداح القمر» ومجموعة أغنيات الهوا (الهوا هوايا، زي الهوا، جانا الهوا) بقدر ما منحت حليم ميلاداً مختلفاً فإنها وللأسف قضت على تجربة أخرى رائدة مع الشعبيات صاغها أيضاً الثنائي عبد الرحمن الأبنودي وبليغ بصوت محمد رشدي، والذي كان دوماً يردد ويؤكد أن حليم «وأد» تجربته مع الشعبيات على رغم كل ما حققه فيها من نجاح عندما تمكّن بذكاء من الاستيلاء على بليغ، وهو ما نفاه الأبنودي قائلاً: «لم يكن كل ما أكتبه يصلح لصوت محمد رشدي، فمثلاً لا يستطيع عبد الحليم أداء أغنية مثل «عدوية» التي قدمها رشدي بنجاح، كما أن الأخير لا يمكنه أيضاً غناء أغنية «أحضان الحبايب»، كذلك الأغنيات الوطنية التي قدمت بعد الهزيمة العسكرية في 67 ما كانت تصلح لرشدي ولا قنديل، ولا محرم فؤاد، وكلها أصوات جميلة، ولكنها لا تصلح لهذه الأغنيات، بل أعتقد أنه لو لم يكن ثمة عبد الحليم ما كانت هذه الأغنيات أصلاً، وهذا ما لم يفهمه رشدي، كما لم يفهمه الذين راحوا يرددون مثل هذه المقولات من أننا «بعنا» تجربتنا مع رشدي على رغم نجاحها الكبير، أو «ضحينا بها» لحساب عبد الحليم حافظ».
أما بليغ فقال: «لا مجال للمقارنة بين حليم ورشدي، والذي كان مغنياً عظيماً جداً، يحكي لك تاريخ مصر بالغناء، ومن خلاله عملت الألحان الشعبية بحب شديد، لأنها جوايا في دمي، وحكينا فيها «حواديت» أنا وهو والأبنودي والناس صدقتنا، أما عبد الحليم فحاجة تانية، الأغنية الشعبية معه لها طعم تاني مختلف، يعني مثلاً «أنا كل ما أقول التوبة» تختلف عن «ميتا أشوفك» مع أنهما لون شعبي، ولكن رشدي لون وحليم لون مختلف ولا يصح أبداً المقارنة بينهما».
أي دمـعة حــــــــــزن لا لا لا
أي جرح في قــلـــــــــب لا لا لا
أي لحظة حيــــــــــرة لا لا لا
حتى نارالــغـيـــــــــــــرة لا لالا
قلبي دق دق قـلـت مـيـن علـــى الببــــــــان دق
قال لي افتح داالزمان
قلت لـه جاي ليـه يـا زمـان بعد إيـــه يـا زمان
المؤكد أن حليم نجح بذكاء في سحب بساط النجاح من تحت أقدام رشدي، ودخل دائرة جديدة، أفق آخر أكثر رحابة من الأغنيات، ليس فحسب لأنه يملك ذكاء الموهبة، بل روح المغامرة أيضاً، تلك التي افتقدها طابور طويل من المطربين والمطربات فضلوا دوماً اللعب في المضمون.
أما بليغ فبالإضافة الى روح المغامرة والرغبة في تقديم كل ما هو جديد اللذين تمتع بهما، كان كسر المألوف والمتداول من أهم أسباب تميزه وما حققه من نجاح، لم تكن لديه قوالب جاهزة ثابتة يتحرك من خلالها بل رغبة التحدي الى تقديم الجديد، فمثلاً في أغنية «أي دمعة حزن لا» تحدّى من يقولون إن «الربع تون» مقصوراً فحسب على التعبير المسرحي، فقدم أغنيته من مقام «السيكا» ليبيّن لهم أنه مقام يصلح أيضاً للتعبير المسرحي.
يقول بليغ: «وقتها كانت ابتدت ناس تكتب في المزيكا وهي مش فاهمه حاجة، يعني واحد يقولك إن «الربع تون» مقصور على التعبير المسرحي، فأردت أن أثبت جهلهم من خلال هذه الأغنية، يعني حليم وهو بيقول «أي دمعة حزن لا» كان كأنه بيؤدي مسرحية، موقف فيها، أنا اعتبرتها كده وقت ما بديت ألحنها وقدمتها للناس بالصورة المسرحية دي، وأكثر واحد أحس بما قصدته من هذه الأغنية هو المرحوم عبد الحليم نويرة الذي كلمني وقال لي:
- بليغ.. إيه اللي أنت عامله في الأغنية دي، أنت عاوز تقول إيه؟
- عايز أقول مسرح.
- آه أنا حسيت بكده!».
يواصل بليغ قائلاً: «كنا ناويين أنا وحليم نكرر التجربة دي لكن القدر كان أقوى مننا.
ما لا يعرفه البعض أن الفنانة وردة وكانت زوجة بليغ في هذه الفترة أعجبت جداً بالأغنية وكانت تتمنى أن تقدمها، ولكن بليغ رفض، ما ينفي تماماً أنه كان يلبي دوماً كل ما تطلبه، يضاف الى ذلك أنه نجح في تقديم إبداعات أخرى خارج حنجرتها».
ولكن هذه الواقعة لم تُسكت ما تردّد من شائعات كانت متداولة في تلك الأثناء من أن وردة كانت وراء فترة الخصام الطويلة بين بليغ وحليم والتي وصفها الأخير «بالإرهاب الفني»، على الرغم من أن بليغ رفض الزج بوردة كسبب لما حدث بينهما قائلاً: «الله يجازي اللي كان السبب، الذين أوقعوا بيننا ليضعوا حداً للتعاون المثمر بين ألحاني وحنجرته».
وفي حواره مع صديقهما المشترك وجدي الحكيم قال بليغ: «علاقتي بحليم لم تكن كلها صفاء، يعني مش ممكن عشرين سنة تمر هكذا دون زعل وخناق، ياما اتخانقنا وياما زعلنا، لكن نرجع ناخد بعض بالأـحضان ونضحك، ياما اختلفنا في حاجات، وياما تركت له الدنيا وسافرت، وياما قعد يلف ورايا في لندن وباريس، لكن في الآخر كنا نواجه بعض بشجاعة ونتصافى لأن علاقتنا كانت صادقة جدا».
موعود معايا بالعذاب موعود يا قلبي
موعود ودايما بالجراح موعود يا قلبي
ولا بتهدا ولا بترتاح في يوم يا قلبي
وعمرك ما شفت معايا فرح
كل مرة ترجع المشوار بجرح
غابت الشمس فغادر بليغ الميدان عائداً الى البيت، بينما حليم ما زال حاضراً في المشهد يملأ خياله وذاكرته حتى شعر أنه يرى وجهه في كل الوجوه التي يتطلع إليها في ذلك المساء اللندني الكئيب...
• في الحلقة المقبلة نقلّب معاً أوراقاً من حياة بليغ الموعود دوماً بالعذاب.