في هذه الأسطر البسيطة نجد عينة فريدة من نوعها في العلاقة بين الحاكم و المثقف يمثلها القاضي أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي و الخليفة عبد الرحمان الناصر , فقد ولد منذر بن سعيد حوالي 280 هـ الموافق لـ 893 م و هو من كبار العلماء , يميل الى الأخذ بمذهب داود الظاهري , لكنه يجتهد , إلا انه عندما وليّ القضاء لم يكن يطبق الا مذهب مالك المعمول به في الأندلس , لكنه عندما يطلب منه رأي في قضية ما يجتهد و يعطي رأيه الخاص غير ملتزم بمذهب .......
عاش منذر بن سعيد على عهد الخليفة عبد الرحمان الناصر خمسين سنة من 300 هـ الى 350 هـ أي من 912 م الى 962 م .
و رغم علمه الواسع لم يتقلد منصب القضاء الا سنة 339 هـ ذلك ان الخليفة الناصر لم يكن يعرفه الا عندما قدم وفد من الإمبراطورية البيزنطية يحمل الى الناصر تحفا و هدايا .
استقبل الناصر الوفد البيزنطي في الزهراء أفخم استقبال , و حشد له جمعا من رجال الأدب و العلم , و طلب من ابي علي القالي " امير الكلام " كما كان يسمى ان يلقي خطبة الترحيب , لكنه بعد الاستهلال تلعثم و توقف عن الكلام , آنذاك تدخل ابن الخليفة الناصر و اشار الى منذر بن سعيد بأن يتولى الكلام فكان فصيحا , بليغا , مفوها ........
آنذاك ولاه الخليفة ليؤم الناس و يخطب فيهم الجمعة في المسجد الجامع بمدينة الزهراء , و عندما توفي قاضي الجماعة بقرطبة ولاه القضاء مع احتفاظه بالصلاة في الزهراء ..... و هكذا نشأت علاقة ودية بين الخليفة و القاضي .........
حدث بعد ذلك ان الخليفة احتاج الى شراء دار في قرطبة لواحدة من نسائه , و وقعت عيناه على دار واسعة لأيتام تحت وصاية رجل , و بما أن ممتلكات الأيتام المحجور عليهم لا تباع إلا بأذن القاضي فقد أرسل الخليفة إلى القاضي منذر بن سعيد مبديا رغبته في شراء الدار , إلا أن القاضي اعترض و قال انه لا يجوز بيع الدار في مثل هذه الحالة إلا إذا كان الأيتام في حاجة إلى المال ....
تراجع الخليفة عن شراء الدار على امل ان يغير القاضي رأيه , إلا أن هذا الأخير أصر على موقفه , بل انه خشي ان يصدر عن الخليفة تصرف يلحق الضرر بالأيتام فأمر الوصي بهدم الدار و بيع أنقاضها ففعل ..... و كانت قيمة الأنقاض أكثر من القيمة التي عرضها الخليفة .
ارسل الخليفة الى القاضي يسأله عن سبب هدم الدار و بيع الأنقاض , أجابه القاضي : لقد أخذت بقوله تعالى : " أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر , فأردت أن أعيبها و كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا " .
و لم يكن من الخليفة إلا الرضوخ لما فعله القاضي ..... ثم وقع حادث آخر اشد وقعا على الخليفة من السابق ... فقد كان الخليفة مولعا بالعمارة الفخمة .....
و يقال ان عبد الرحمان الناصر اقبل على عمارة الزهراء و انفق عليها أموالا طائلة , في حين أنها ليست سوى قصورا لنسائه ......... و انشغل بهذا الامر حتى غاب عن صلاة الجمعة ثلاث أسابيع متتالية , و عندما حضر الخليفة بعد ذلك لأداء صلاة الجمعة , خصص الإمام خطبته للتنديد بتصرفات الخليفة في البنيان الفخم فشرح الآية : " أتبنون بكل ريع آية تعبثون , و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون "
و بعد أن أسهب في شرح الآية بما لا يترك مجالا للشك في أن المقصود بذلك هو الخليفة , تلا قوله تعالى : " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله و رضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فأنهار به في نار جهنم و الله لا يهدي القوم الظالمين " .
بعد صلاة الجمعة , اشتكى الخليفة لأبنه و ولي عهده , و قال : كاد يقرعني بعصاه !! , فقال له ابنه : ما الذي يمنعك من عزله , فأجابه الخليفة : أمثل منذر بن سعيد في فضله و علمه و خيره يعزل لأرضاء نفس ناكبة عن الرشد ؟ هذا ما لا يكون ......
إلا أن الجفوة بين الرجلين استمرت , بل تأكدت فأراد ابن الخليفة أن يخفف من حدتها و قال لوالده : لو رأى جمال القبة التي بنيتها لغيّر رأيه , و هو يقصد قبة الزهراء التي جعل قراميدها من فضة , و بعضها مطلي بالذهب و جعل سقفها نوعين ....صفراء فاقعة و بيضاء ناصعة ينطلق منعا شعاع يبهر الأبصار .
أمر الخليفة بفرش الديباج و جلس فيها مع بعض وزراءه و حاشيته , و من ضمنهم القاضي , سألهم الخليفة : هل سمعتم بأن ملكا قبلي عمل هذا ؟ قالوا : لا و الله يا امير المؤمنين ....لكن منذر بن سعيد قال له : ما ظننت أن الشيطان يتمكن منك حتى ينزلك منزلة الكافرين !!
قال له الخليفة : كيف تقول هذا ؟ أجابه منذر بن سعيد : أليس الله تعالى يقول : " و لو لا أن يكون امة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة " ..... فطأطأ الخليفة رأسه و بكى , و قال له : " جزاك الله عنا و عن الدين خيرا , فالذي قلت هو الحق ......." .
إن صرامة هذا القاضي و شجاعته , لا تضاهيها إلا سعة صدر الخليفة و نبله ........ و يكمن القول بأن تصرف الناصر مع هذا القاضي في ذلك العصر يعد أمرا نادرا ..